من السذاجة بمكان القول: إن إسرائيل لم تحقق أي هدف من أهدافها. أعلنت إسرائيل القضاء على حماس، أو على قدرتها العسكرية.
عودة الأسرى عبر الحرب، أو عبر الضغط العسكري، ووضع غزة تحت الحماية الأمنية، أو بالأحرى عودة المستوطنات كما يطرح اليمين التوراتي - هذه هي الأهداف التي حددتها إسرائيل.
القراءة الظاهراتية لهذه الأهداف المعلنة، والحكم من خلالها على الفشل هو مصدر الخلل في القراءة والتحليل، ولكن القراءة الجُوانية، والحفر عميقًا في أنثروبولوجيا الشعارات، والربط العميق بالحرب، ونهج الإبادة، وإعدام الحياة، وتدمير كل شيء بشرًا وحجرًا ومقومات وجود في غزة، هو ما أرادته إسرائيل، ويجيب على مدى الفشل أو النجاح.
حرصت الدولة الإسرائيلية، وأدوات حربها، على القول إن الهدف الأساس هو القضاء على حماس. ويقينًا، فإنها تريد القضاء على حماس، ولكنها أيضًا تدرك أنها قد خاضت، ومنذ العام 2002، أربعة حروب ضد حماس، وقبل الانسحاب من غزة 2005، تمنى شارون ابتلاع البحر لغزة.
إذن، فالقضاء على حماس المغروسة في التربة والبيئة الفلسطينية لن يتحقق إلا عبر تدمير غزة - كل غزة - والإبادة الجماعية لكل أهلها، وإعدام كل مظاهر الحياة؛ بحيث تصبح غير صالحة للسكنى؛ وهو ما يحدد الهدف الخبيء والأساس؛ وهو التهجير القسري لكل مواطني غزة، والضفة الغربية، وقيام الدولة اليهودية الصهيونية من البحر إلى النهر - حسب التوراة، ومؤتمر بازل، ووعد بلفور.
هدف الإبادة الجماعية قائم وشبه متحقق؛ وهو ما يعني انتصار الإرادة الأولى في القتل الجماعي، والتطهير العرقي، ويبقى التهجير رهنًا بما سيقوم به الشركاء الأمريكان والأوروبيون والأصدقاء العرب، سواء عبر استمرار حروب الإبادة، أو التدخل من الأطراف المعنية لفرض القبول الفلسطيني بالنجاة من الموت.
وفيما يتعلق بالهدف الثاني، الذي يقدم كهدف أساس؛ لأنه بسببه شنت الحرب - وضعت إسرائيل أمامها هدف رئيس؛ وهو استعادة الأسرى بالحرب والحرب وحدها. وخلال ما يقرب من ثلاثة أشهر عجزت إسرائيل عن استعادة أسير واحد، أما الأسرى المستعادون، فقد تمت استعادتهم عبر التفاوض والهدنة المؤقتة.
وفي سياق تبادل الأسرى بالمعتقلين الفلسطينيين. حقيقةً لم يكن هدف اليمين التوراتي، أو العلماني الصهيوني الاستعادة أصلًا؛ فالحرب هي الأساس، والتهجير والتطهير العرقي هما الغاية؛ وهو ما يقوله بعض قادة اليمين علنًا، وتدلل عليه وقائع الحرب؛ فقد قُتل ثلاثة أسرى، وربما أكثر، بالقصف والرصاص الإسرائيلي.
وعلى الرغم من المظاهرات المتصاعدة داخل إسرائيل إلا أن نتن ياهو، وحكومته، يصرون على استمرار الحرب، وربما يجدون في نهج القائد الكنعاني هاني بعل أسوة؛ وهو التضحية بالأسرى في الحرب، وقضية التمترس في الفقه الإسلامي ليست بعيدة. الحكومة والجيش الإسرائيلي حريصان أكثر من أي شيء آخر على استمرار الحرب، أما الأسرى، فمجرد مبرر لحرب الإبادة، والتطهير العرقي، والتصلب.
كما أن رفض الوساطات مرده بالأساس إلى عدم اللامبالاة بحياة الأسرى؛ فالأسرى هدف تكتيكي، وربما قميص عثمان، واستعادة الأسرى بدون تحقيق الهدف الأساس (التهجير) يعني فشل الحرب. وقوف الإعلام إزاء فشل إسرائيل في استعادة الأسرى غير صائب، وربما المفرج عنهم من الأسر، وأُسر الأسرى هم الأكثر إدراكًا للأهداف الخبيئة والمتصاعدة للحرب.
كما أن قادة المقاومة يدركون الأهداف الأساسية للحرب، فقد طرحت المقاومة منذ البداية تبادل الأسرى الإسرائيليين بالمعتقلين الفلسطينيين، وهو ما لا تريده إسرائيل. فالغاية ليست استعادة الأسرى، وإنما استمرار الإبادة والإفناء والتدمير والتطهير العرقي؛ وهو ما تدركه المقاومة جيدًا، وهو مصدر تعثر الوساطات.
منذ الرصاصة الأولى، تحرص إسرائيل، ومعها أمريكا وأوروبا والإعلام الفائق القدرة، على جعل الـ7 من أكتوبر بداية الحرب، وأن الإفراج عن الأسرى هو الغاية، ولكن الوقائع عنيدة؛ فمجازر وحروب خمسة وسبعين عامًا لا تزال حاضرة.
وأبناء الشهداء شهود، وقضية الاحتلال الإسرائيلي هي الحرف الأول في مسلسل مجازر وإرهاب وحروب لن تنتهي إلا بزوال الاحتلال. انتصار إسرائيل هذه المرة مختلف كلية عن انتصاراتها الكثيرة في 1948، و1967، و1982 الذي تم فيه إخراج المنظمة الفلسطينية من بيروت، وحرب 2000 ضد الانتفاضة الثانية، وما تلاها من اجتياحات متكررة لغزة، ومد الاستيطان، والاجتياحات شبه اليومية لمدن الضفة.
"انتصار" إسرائيل في حرب السابع من أكتوبر، وبعد أن قتلت أكثر من اثنين وعشرين ألفًا غالبيتهم من النساء والأطفال، وشردت وجوعت أكثر من مليونين، ودمرت أكثر من ثلثي مدن وقرى غزة، ولا يزال الآلاف تحت الأنقاض، ومئات الآلاف المشردين في رفح على أبواب سيناء، وتنتشر المستوطنات في معظم أراضي الضفة، ويقتل في الضفة، خلال العام الماضي، أكثر من خمسمئة، أما المعتقلون، فيبلغون سبعة آلاف.
وعلى الرغم من كل ذلك، وعلى الرغم من الإصرار على استمرار الحرب وتصعيدها؛ فإن لهذه الانتصارات نكهة الهزيمة، ومذاق الفشل فيما تعتبره إسرائيل انتصارًا. كان الهدف الأساس التهجير، وإقامة دولة إسرائيل من البحر إلى النهر.
وإذا لم تحقق هذه الغاية؛ فإن مؤشر الانكسار تكون البداية، وهي بداية لا تقوى على تحملها إسرائيل، فما تعتبره انتصارًا هو المعنى الحقيقي للهزيمة. ولعل تصريح أوستن - وزير الدفاع الأمريكي- كان الأكثر إدراكًا للمآل: "لقد تعلمت شيئًا أو اثنين عن حرب المدن. والدرس أنه يمكنك الفوز في حرب المدن من خلال حماية المدنيين".
ويضيف: "مركز الثقل هو السكان المدنيين، فإذا دفعتهم إلى أحضان العدو؛ فإنك تستبدل النصر التكتيكي بالهزيمة الاستراتيجية".
ويقينًا، فإن علامات الهزيمة الكبرى هي صمود المقاومة، وصبر وثبات الفلسطينيين في القطاع والضفة، والإصرار على العودة إلى منازلهم وأحيائهم المدمرة، على الرغم من الحرمان من الغذاء والماء والدواء في غزة، والاجتياحات والتقتيل والاعتقالات الكيفية في الضفة، واعتداءات المستوطنين.
ويقينًا، فإن تصاعد الاحتجاجات في الداخل، وتراجع الدعم في بعض بلدان أوروبا، وعدم الرغبة الأمريكية في توسيع نطاق الحرب، كما يريد النازيون الجدد في إسرائيل، كلها مؤشرات الفشل الذي تعتبره إسرائيلي أعظم انتصاراتها، وهو المعنى الحقيقي للهزيمة، وليس الفشل عدم القدرة على استعادة الأسرى بالحرب، أو فشل الضغط العسكري.
كما أن قتل حماس واغتيال قادتها هدف أيضًا، ولكن الهدف الاستراتيجي الأهم هو التطهير العرقي، والتهجير، وبالعجر عن تحقيقهما تكون الهزيمة الكبرى للاحتلال الاستيطاني، ولخطة هرتزل، ووعد بلفور. نكبة 1948 نجم عنها يقظة أمة، وهزيمة 1967 أشعلت المقاومة، وخروج المنظمة من لبنان أثمرت انتفاضتين.
أما " انتصار" إسرائيل الكارثة الكبرى حاليًا، فلها حتمًا ما بعدها، ولكن هذه المرة لن تكون في المنطقة العربية وحدها، وإنما تمتد إلى داخل إسرائيل، وقد تطال الأطراف المشاركة والداعمة للحرب.
جرائم حرب الإبادة وضد الإنسانية في فلسطين، ونهج التطهير العرقي، وتدمير كل معالم الحياة، والتهجير القسري جرائم هولوكوست لا تقل بشاعة عن جرائم النازي الألماني، والفاشي الإيطالي.
نتن ياهو، وبن غفير، وسموتريتش يحاولون التفوق في الجرائم على هتلر وموسوليني، ويحاولون اقتراف جرائم غير مسبوقة في التاريخ البشري. الهولوكوست جذر أساس لقصة العداء للسامية في أوروبا يحولها الأوربيون والأمريكان ضدًا على الأمة العربية كلها.
"نقلا عن بلقيس"