> فضل النقيب

فضل النقيب
فضل النقيب
«اللحقة» من تقاليد مطاعم عدن، ولم أجد لها مثيلاً في أي مكان زرته من العالم، ولا أدري إذا كانت مستمرة إلى الآن ومجانية، فحين تأكل في مطاعمها الشعبية ولا تشعر أنك شبعت تماماً ، فما هو إلا أن تصرخ «لحقه .. يا وليد» فتسمع صدى صوتك وهو يتردد على ألسنة المقربين «لحقه .. لحقه بسرعة» وقبل أن يرتد إليك طرفك تجد الإدام «الخصار» على طاولتك، فاللحقة لا تقبل الانتظار.. كيف يدبرونها، لا أدري ، علماً أن المطعم اليمني يستحق أن يدخل موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية باعتباره الأسرع في العالم خدمة ، أما اللحقة فهي أسرع الأسرع، ولا شيء يدل على كرم هذه المدينة وسكانها من اللحقة، فهي الخاتمة، وختامها مسك، ومن أسماء عدن أنها «أم المساكين» فما من أحد كان يجوع فيها، فخير الله باسط، والنفوس أكثر بسطاً، أما عن السرعة فمن لا يصدق من الذين لا يرتادون المطاعم فليذهب إلى مخابير بني شيبة وعيال دبع ليلمس الخدمة «الإكسبرس» وسط جوقة الأصوات التي تشق عنان السماء مصحوبة بقرعات الصحون وموسيقى المطايب وأزيز النار في المطابخ وتحت «البرم» والجو يعبق بروائح اللحوم الطيبة والأسماك الطازجة والحلبة التي لا تفارق المسام يومين بليلتيهما، وأتذكر أنني استقبلت شاعرنا الكبير المرحوم عبدالله البردوني في مطار بغداد الدولي فكان أول ما حياني به بعلو صوته وبصورة متكررة لفتت من في المطار صيحته المدوية «لحم زقار ياوليد .. لحقه ياوليد»، وقد سألته عن ذلك مندهشاً فقال : فيها موسيقى عجيبة.. لحم زقار ياوليد..أسرت قلبي من أول مرة سمعتها.. بالمناسبة البردوني واحد من أكبر عشاق عدن ومحبيها، وله صولات وجولات فيها، لو كان القرشي عبدالرحيم سلام حياً لأمتعنا بجانب من التاريخ الذي نسيه التأريخ.

أما لحقة «نجوم عدن» خارج المطاعم ولحقاتها، فإنني قد تلقيت مكالمات وفاكسات ومساجلات كثيرة، خاصة حول الحلقات الثلاث الأخيرة التي تناولت لمحات من شخصية الشيخ علي عبدالله العيسائي، وقد نبهني أخوه محمد إلى أنني نسيت أنه كان يخصه بدجاحة كاملة يومياً الأمر الذي أثار حسد نزلاء البيت الكبير، كما أشار إلى أن الاثني عشر قميصاً التي أشرت إليها لم يصل منها إليه نهاية الأمر سوى اثنين - خير وبركة- وقال إنه عاد إلى عدن وأخذ يحوم حول البيت حيث ذكرياته وشهاداته المعلقة في جدران غرفته وهمّ بأن يطرق الباب ليقول لساكنيه: أريد أن أرى حياتي التي تركتها هنا، ثم عدل ربما لأن المكان يفقد ذاكرته حين يسكنه من لا ذكريات له، وذكرني باسم التاجر الهندي الغارق في العطور قائلاً إنه مستر «باتل» وإن الأمر لم يكن قاصراً على قناني العطور الفاخرة، وإنما كان يجلب مختلف أنواع العصائر، وقد انقسم سكان البيت الكبير إلى فريقين: مغرمون بالعطور ومغرمون بالعصائر ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، أخيراً سألني السؤال الإنساني الجميل: هل هناك إمكانية لعلاج الأستاذ قاسم المصباحي؟

إن أكبر مكافأة للكلمة ما تثيره من نوازع الخير ومشاعر الوفاء، وقد «فاكسني» صديقي الأستاذ محمد عبدالودود طارش من تعز المحروسة لافتاً إلى مسألة الوفاء، وإلى ضرورة جلاء هذه القيمة التي تكاد تفقد في حياتنا، كما تجلى الأتربة عن الماسة المشعة.

أعتذر لكثيرين آخرين فالحيز لا يتسع، ولكن القلوب شهود.. والمحبة بليّه.