> فاروق لقمان:

الناشران هشام ومحمد حافظ يتوسطهما فاروق لقمان
منذ بدأنا سوياً إصدار أول جريدة يومية بالإنكليزية في المملكة العربية السعودية كان محمد الصحفي والكاتب والمحرر إذ إنه تخرج في الصحافة في جامعة القاهرة ثم التحق بدار «أخبار اليوم» المصرية تحت إشراف الرائد الأكبر مصطفى أمين وتوأمه علي إذ توسم مصطفى في محمد سمات النجابة كما قال منذ كان مصطفى يدرس الصحافة في الجامعة ويلتقي محمد بين تلاميذه كما أخبرني شخصياً.
هشام بدأ حياته بعد تخرجه في مصر بليسانس العلوم السياسية وبعده دبلوم العسكرية في خدمة الحرس الملكي السعودي ثم تدرج في السلك الدبلوماسي في عدة عواصم منها واشنطن وطهران وجنيف قبل التفرغ مع محمد في تحرير جريدة «المدينة المنورة» التي أسسها والدهما علي وشقيقه عثمان وهذا الأخير أرخ للصحافة السعودية في أكثر من كتاب استفدت منها خلال عملي.
واستطاع الشقيقان هشام ومحمد أن يجعلا من «المدينة» أول جريدة يومية سعودية عصرية متأثرين كثيراً بمدرسة «أخبار اليوم» الرائدة التي غيرت مفهوم ومحتوى وأسلوب الصحافة العربية في القرن العشرين كله حتى امتد نفوذها إلى بقية العواصم العربية. وكان أحد تلامذتها أخي الراحل علي محمد لقمان الذي تولى تحرير جريدة «فتاة الجزيرة» بعد تخرجه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتصادفت فترة دراسته إلقاء مصطفى أمين سلسلة من المحاضرات تعرف خلالها بالرائد المصري تماماً كما فعل محمد علي حافظ في جامعة القاهرة. ولما عاد إلى عدن في الأربعينات طبق بعض مفاهيم صحافة «أخبار اليوم» خاصة في الأسلوب والمانشيتات كما كانت تسمى العناوين على الصفحة الأولى. وخلال إعداد كتابي عن هشام ومحمد اطلعت على مجلدات «المدينة» فوجدت أنها كانت حقاً صيحة جديدة في الصحافة السعودية كما كانت «أخبار اليوم» في مصر و«فتاة الجزيرة» في عدن التي أسسها الوالد رحمه الله وشارك ولده علي ثم حامد ثم كاتب هذه السطور. طبعاً كل ذلك تحقق في العواصم العربية قبل النكبة بالنظم الشمولية وأضرارها المتشابهة. لكن هشام حافظ كان أكبر من مجرد مشترك مع شقيقه في رئاسة تحرير جريدة يومية إذ كان ينظر إلى أبعد من ذلك بكثير. كان يقول وقد عايشته ثلاثين عاماً - أنه سيكون أكبر ناشر في الشرق الأوسط حتى عندما كان راتبه لا يتجاوز مائة دولار شهرياً وأن يصدر ويحرر ويطبع ويوزع جرائد ومجلات تصبح متوافرة في ساعة الانتهاء منها في كل القارات. هل كان يحلم كما كنت أحدث نفسي؟ نعم كان يحلم لكنه لم يكن يهذي. كان يخطط وهو يواصل التدخين بدون توقف مع القهوة التركية وهو ما أضر بصحته بعد ذلك إلى أبعد الحدود.

هشام حافظ يستعرض مع مديرة تحرير «سيدتي» كريمة زبانة ومخرج «المجلة» وليد مشنوق طريقة اخراج المجلات الملونة على الكمبيوتر والامكانات التي يوفرها الاخراج الالكتروني
وخلال سنوات قليلة كان هشام حقاً أكبر ناشر في الشرق الأوسط وباتت «الشركة السعودية للأبحاث والنشر» من أضخم المؤسسات الصحافية - بدون تليفزيون وفضائيات - في العالم بلغت قيمتها ألفي مليون ريال سعودي أو خمسمائة مليون دولار أمريكي.
أصبحت «الشرق الأوسط» تطبع في 16 محطة في أنحاء العالم حيث تقرأ في نفس ساعة صدورها حتى أنني كنت أشتريها بلهفة عارمة في مدينة سان جالن السويسرية الصغيرة الساعة الثانية ظهراً لأنها كانت تصل من لندن إلى جنيف ثم بالقطار إلى سان جالن. وتعددت إصداراته من اليوميات العامة الرياضية والاقتصادية إلى الأسبوعيات والشهريات. وفي غضون ذلك كان مع شركائه يمتلك أكبر مطبعة متكاملة يعني قطعة واحدة في المملكة تستطيع أن تطبع جريدة يومية بالألوان خلال تناولي وجبة العشاء.
مصطفى أمين كان يتمنى أن يقوم بمثل ما فعله الناشران السعوديان بطباعة «أخبار اليوم» التي كانت أنجح أسبوعية في العالم العربي في عدة بلدان مع تغيير الصفحات المصرية المحضة مثلاً إلى لبنانية أو عراقية أو سورية أو مغربية أو يمنية، وبطباعة «الأخبار» اليومية أيضاً كما حدث بالنسبة للجرائد التابعة حالياً للشركة السعودية. لكن مصطفى كان أولاً يفتقر إلى التقنية الحديثة والأقمار الاصطناعية التي حققت لهشام حافظ أمنيته وجعلته ناشراً عالمياً وثانياً فوجئ بالانقلاب العسكري في القاهرة عام 1952 الذي فرض نظاماً شمولياً قلده الضباط في الدول الأخرى. فماتت الفكرة في مهدها. ولو لم يحدث ذلك لكانت «الأخبار» و«أخبار اليوم» وغيرها مثل «الأهرام» أول صحف عربية دولية.

محمد حافظ وهشام حافظ وابنته فاطمة تحمل مجلة «باسم»
كان هشام سريع الغضب والانفعال وأسرع من ذلك في الرضا والاعتذار كما كان أحد أكرم من عرفت، سريعاً في عطائه بقدر ما كان سخياً في صدقاته. فتح الله عليه بعد ما كان موظفاً حكومياً متواضع الراتب حتى أنه كان يمتلك شركة تضم مئات السيارات. عاش حياة مترفة بدون شك لكنه أسعد بماله مئات الآخرين والأسر. اقتنى الطائرات الخاصة وقدم خدماتها لأصدقائه وقت الحاجة. سكن أفخر البيوت في جدة وكان ولندن وجنيف وأسكن غيره معه أو لوحدهم فيها. كان يغضب أحياناً حتى أتوقع أن ينهال على من يقف أمامه بيده ثم يتراجع ليبكي على مقعده نادماً معتذراً ويأمر له بأضعاف راتبه أو بتكاليف تعليم ابنه أو ابنته لعدة سنوات قادمة.
رحم الله هشام رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.