> د.فارس السقاف:

د.فارس السقاف
د.فارس السقاف
في تاريخ اليمن المعاصر برزت إلى السطح جدلية الحكم والحاكم في أجلى صورها، وأشدها تمييزاً,فمنذ عهد بعيد لم تتبلور فكرة الدولة ولا تطبيقاتها على أرض الواقع لأسباب عديدة أهمها غياب الحكم الوطني وهيمنة الاحتلال أو الاحتكام إلى حكم ثيوقراطي تقليدي متخلف.. وحتى بعد الاستقلال والتحرر والانتقال إلى مشروع الدولة القطرية الوطنية منذ ما يزيد على أربعة عقود حتى بعد كل ذلك لم نستطع تحقيق نظام الحكم المنشود، ولم تتأسس الطبقة الحاكمة المؤهلة بل تعاقبت أنظمة حكم مستوردة وطبقات حاكمة عاجزة في غالبها، وصعدت إلى سدة السلطة بفعل ولاءاتها او لاعتبارات قسرية، إذن بعد كل هذه المراحل المتعاقبة تتجدد التساؤلات حول المهام الغائبة: نظام الحكم (دولة النظام والقانون وحكم الشعب) وأهلية الحاكم وشرعيته (مصدر السلطة الشعبية، ورصيد إنجازاتها).

ظل الحديث عن دولة المؤسسات والنهوض التنموي ترفا لا جدوى منه وضرباً من الخيال في ظل الصراعات ودورات العنف وعدم الاستقرار التي صاحبت كافة فترات التحول إلى النظام الجمهوري والحكم الوطني.

في مطلع الثمانينات بدا أن الحكم والحاكم في اليمن يتجهان نحو البدايات لإنجاز نظام حكم وحدوي ديمقراطي وتنموي نهضوي ففي ذلك الحين توقفت العمليات العسكرية المدعومة من الجنوب في المناطق الوسطى وبعض مناطق تعز من شمال اليمن، وقد كانت خطوة لازمة تمهد الطريق إلى الوحدة ثم أعقبها تشكيل كيان جبهوي قيادي يحاكي الكيان القائد في الجنوب. وكانت بعد ذلك الخطوة المعززة للتوجه نحو رسم معالم النظام السياسي المدني الديمقراطي وهي تنظيم أول انتخابات برلمانية في العام 88م.

ولم تكن هذه الخطوات كافية ما لم تتوج بالسعي لإنجاز الوحدة اليمنية أهم أهداف الثورة اليمنية في الشطرين فكان الإنجاز الاستراتيجي في 22 مايو 1990م.

وما بين العامين 90-93 جرت أحداث مضطربة في سبيل استيعاب إجراءات الدمج، وقدمت الكثير من التضحيات.

لكن حرب 94 جاءت لتعصف بربيع الوحدة القصير لولا المسؤولية القيادية، والوعي الشعبي اللذين أفشلا مشروعي الحرب والانفصال.. رغم كل مترتبات الحرب وانعكاساتها إلا أن اليمن الموحد واصل مهمة الدولة ولم يتراجع عن الاستحقاقات الديمقراطية بل إنه توسع فيها ورسخها كما فعل في أول انتخابات رئاسية ومحلية مهما قيل عن أوجه قصور وجوانب نقص. فهذه الانتخابات كما أنها تحدد طبيعة الحكم، فهي تنتج النخب الحاكمة.

إذن جدلية نظام الحكم وشرعية وأهلية الحاكم وصلت إلى دائرة الثبات واليقين عوضاً عن الظن السلبي بتراجعها أو الانتقاص منها.. وهي دلالة على صدقية الحاكم والثقة التي وصل إليه. مع كل ذلك لاتزال أصوات ترتفع وبقوة بعد الفرز الواضح بين حزب حاكم منتخب ورئيس جاء بشرعية ديمقراطية وتكتل معارض يطرح نفسه بديلا ويسعى ألى السلطة بالانتخاب الديمقراطي لاتزال هذه الأصوات ترتفع تنادي بأحقيتها في الحكم.

إن الانتخابات لاسيما الأخيرة الرئاسية والمحلية أفرزت حقائق لا يمكن إنكارها أو الاستهانة بها:

- أولاها: أن الشعب يتطلع إلى حكم رشيد ويمنح الحاكم فرصة لتحقيق طموحاته لأنه يثق بقدرته وأهليته.

ثانيها: أن المعارضة بحاجة إلى مراجعة اختياراتها وخياراتها وشخوصها وخطابها والتي تختزنها ذاكرة الشعب ولم تندرس بكل ظلالاتها.

ثالثها: أن محاولة استرضاء الشعب وكسبه والسيطرة عليه عبر استدعاء حكم بائد أو من خلال الاستقواء بالخارج تحت مسميات الاستعمار القديم أو الجديد لن تجدي نفعاً كما لن تجدي نفعاً استمالة الجمهور باسم اشتراكية قسرية فشلت وخلقت أوضاعاً لا تستقيم مع الفطرة الإنسانية. وكذلك لن تحقق نجاحا تلك التي تقدم نفسها باسم القومية لأنها لن تقدم مشروعا اجتماعيا اقتصاديا ينشده الناس وإنما عواطف وحماسة احتجاجية دون مضامين تنموية.

رابعها: أما التقدم باسم الإسلام وفي سبيل الله في معركة الحكم فهو شأن عام للناس كافة وليس من وكيل حصري أو ممثل وحيد لهذا الدين. إن الشعب يملك من الإدراك ما يتيح له التمييز ولهذا فلم يستطع التحرك تحت هذه اللافتة من مصادرة الاختيار الصائب للشعب

وآخر هذه الحقائق:

أن اليمن من الصعوبة بمكان حكمها في الحاضر والمستقبل من فئة أو أشخاص خالي الوقاض، أوأ صفار الأيدي، أو ممن لاحظ لهم أو قليلي النصيب من رصيد نضالي وثوري ووحدوي أو ديمقراطي وتنموي.

مسألة الحكم ليست أرصدة في البنوك، أو أرقاماً مالية أتت من هنا أو هناك وإنما هي أرقام في مضمار التطور، ومواقف وطنية منجزة تسكن ذاكرة الشعب تستنهضه بدلا من استثمار مقدرات الشعب لمصالح خاصة.. كل ذلك مهما بلغ ومهما سعى له هؤلاء ليحكموا اليمن فهو بعيد المنال.

وسيثبت قابل الزمان، وقادم العهد صحة ذلك وصيرورته التاريخية.