> علي هيثم الغريب:

إن المقال الذي أتناوله هذه المرة هو مقال من نوع خاص.. إنه تعريف مبسط بنشوء الروح الإنسانية في مدينة عدن.. تأملت فيها جيداً وسمعت حكايات حاراتها ونبضها الجميل.. وعندما أمر اليوم أرى وجوه الأحبة تطل عليّ من تلك النوافذ الصغيرة التي تفتح لنا اللوحة الكبرى لعدن، حيث تقوم فارعة شجرة الأهل الذين عاشوا هناك، المادين جذورهم إلى كل بقع الوطن.. بدأت أفكر بالكتابة عن «الفتوة» في عدن تناغما مع كتابات الأستاذ نجيب يابلي «رجال في الذاكرة» التي يرويها بصدق وإخلاص وكأنه يتلمس الآثار ويصيغ السمع لالتقاط حكايات من عاشوا هناك.. ويبلغ الناس بفضل عزيمة صحيفة «الأيام» التي تنشرها تباعاً.

أما هذه الحكاية فهي لإنسان أراد أن يعيش عادلاً وحراً وتربى في منزله سياسيون وشعراء ورجال فكر.. ترى ما هي قصة علي الضيئاني اليافعي الذي عاش ومات في حافة حسين؟!

عندما وصل عدن وهو طفل بدا له العالم جديداً، الناس بملابسهم النظيفة يتدفقون في الشوارع فرادى وجماعات ليصلوا إلى معابدهم المحيطة بكريتر. وهناك شوارع تتمدد بعناية فائقة وسيارات تبحث فيها عن مخارجها.. دكاكين مملوءة بالملابس وبأكوام القمح والشمام والخضروات.. وفقراء يسيرون بتأمل وآخرون بهمجية.. وعلي الضيئاني «أبو شنب» يسير حاملاً «صميله» وينظر بتعجب وفضول إلى كل شيء .. وكلما رأى شابا «من فتوة عدن» يرفع رأسه ويهز «صميله» كما لو أنه يريد التأكد من حقيقة وجوده في «حافة حسين».

كان «أبو شنب» لا يرضى إلا بالعدل، عدل كان يتلقاه مباشرة من المدينة التي ينتمي إليها. ولم يعارك في حياته إلا فتوة مؤذياً.. والظلم هو من أبغض الأشياء إلى قلبه.. وعندما يرى أن قوياً يضرب ضعيفاً كأن إبرة انغرزت في صدره. لم تكن هذه الأعمال لعلي الضيئاني «أبو شنب» تحتاج إلى دليل لدى السلطات في عدن حينها (بداية الخمسينات) فعين مديراً عاماً للمناطق الشعبية في كريتر- المعلا والتواهي، والمعروف أن هذه المناطق كان فيها الكثير من الرجال «الفتوات» والأقوياء والمشاكل ومنازل الصفيح.

ثم وفي عام 1963 تم تعيينه مديراً عاماً لبلدية عدن.. فاستفاد الإنجليز من شخصيته الفولاذية وشهرته الواسعة «أبو شنب».. تم تعيينه في هذا الموقع رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، ولكن كان يجيد اللغة الأنجليزية والأوردو والصومالية، واشترط على إدارة عدن أن يمنحوه سيارة وكاتباً «كراني» واستمر بهذا المنصب حتى سنة وفاته عام 1975.

كانت علاقاته مع الناس لا حدود لها.. ولم تجعله السياسة يختار أصدقاءه.. فكان محبوباً لدى أعضاء جبهة التحرير وهو مناصر ثم عضو في الجبهة القومية، ويحظى بتقدير الناس والهيئات وكل من عرفه أو (حتى) سمع عنه أو تعامل أو تصادم معه.. حيث اختصر مساحة الوطن في حبّه للعدل.. ورفض أن يتصالح مع سياسة المكايدات والتصفيات، فكانت يداه مضخة لمن يطلب ماء، ووعاء لمن يطلب الخبز.. تربى في منزله الفقيد محمد صالح مطيع (وزير الخارجية السابق) وسالم صالح محمد مستشار رئيس الجمهورية (وهو ابن أخيه) وآخرون.. كلفه الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) بتوزيع بعض المواد الغذائية للفقراء الساكنين في حي كاسترو بالمعلا والأحياء الشعبية في عدن.

وكانت الغاية الكبرى عند علي الضيئاني هي جعل الحياة في عدن أكثر إنسانية، عادلة، لا جشع أو إيذاء للغير فيها.. ومن أجل هذا عاش وانسل في تراب عدن مودعاً الناس الذين مدهم بالقوة والشجاعة والخير.. تاركاً لأولاده الثلاثة الجامعيين منزلاً متواضعاً نسيه من تربى فيه وانقطعت أخبارهم وضحكة مدوية وجميلة لانتصارات متفرقة كان يتذكرها بشغف وهي محملة بلوعة الفراق، حتى فراق علي حيرو الرجل العملاق الذي تبارز معه آخر مرة وفرشه على الارض بعد أن نزل بـ«صميله» ضرباً على ساقيه الطويلتين اللتين تكتلت فيهما الدمامل الحمراء.. وهب «ابو شنب» واقفاً بقامته القصيرة «المربوبة» وقد رفع ذراعين لا نهاية لهما هو يصيح ناظراً إلى جماعة «علي حيرو»: إلى هنا وكفى!.. سنتان حتى التقى «ابو شنب» بـ (علي حيرو) وصارا صديقين، وهذه عادة أصحاب «الفتوة» في عدن.التقيت بابنه علي، وهو الابن الثالث لعلي الضيئاني «أبو شنب» و(صالح أستاذ في الجامعة، والدكتورة أفراح طبيبة جلد)، وعلي بن علي الضيئاني ضابط في المنطقة الحرة.. وهو يشبه أباه بكل ما تحمل الكلمة من معنى، يحاول أن يخرج عن مألوف أيامه ليجد إنساناً يشبه والده، ولكنه دائماً يفشل ويقول مبتسماً: لكن الأيام لدينا تختلف.

ختاماً، لقد رحل علي الضيئاني وودع الدنيا، ونحن هنا نحاول إنصاف الرجل وإظهار مناقبه النادرة ومكانته الحقيقية في حياة عدن.. رحمه الله رحمة واسعة.