> يكتبها : أ.م.د/ علي سالمين

تقديم ماقبل القصة
أبوبكر سالم ترك عدن نجاة بروحه من النظام السياسي الذي تسلم السلطة في الجنوب بعد الاستقلال كان قد صنفه تصنيفا سياسيا معاديا وأهدر دمه. سافر بلفقيه إلى السعودية تاركا في عدن زوجة وثلاثة أطفال (بنتين أنغام وألحان وولد أديب).. في السعودية تزوج أبوبكر مرة أخرى وحصل على الجنسية السعودية..
كان بين السعودية والنظام السياسي في عدن خلاف سياسي استمر طويلا وقطيعة في العلاقات وحرب تتواتر على الحدود منذ استقلال الجنوب في 1967م..
أبوبكر لم يعد قادرا على العودة إلى عدن خوفا من السلطة، وفي المقابل، عودته يمكن أن تدخله في مساءلات وربما جزاءات من قبل السلطات السعودية للخلاف الذي بينها مع حكومة عدن.. شكلت هذه الأمور معوقات أمام أبوبكر من تمكنه من زيارة أسرته وأبنائه الذين تركهم صغارا.. لم يتمكن منذ مغادرته عدن من العودة أو حتى إخراجهم إليه للعاملين أعلاه.. كبر الصغار، ولاشك، بعاده ترك في أنفسهم شيئا من التوجع والزعل من أبيهم.. بينما أبوبكر كأب لم ينسَ أبناءه وكانت له معاناته التي طالما ترجمها في كثير من أغانيه.. مثل (ياطايرة طيري على بندر عدن)، وأغنية (ماحبيت غيرك)، كانت قصائده الغنائية التي من تأليفه مثل رسائل حب وشوق وحنين لأسرته التي في عدن ولبناته تحديدا (أنغام وألحان) “نناجي الشوق بـ(الأنغام) ونحيا بعدها بـ(الألحان)” في أغنية (ماحبيت غيرك)، وفي (ياطايرة طيري على بندر عدن) “ياسعد قلبي مابنساه، بمرح مع (الأنغام) من رؤاياه، و(الحان) أغني أنا واياه”..
غير أن الأبناء عامة في صغرهم، غالبا، لا يدركون حقيقة مشاعر الشوق والحب والأبوة عند الأب.. ربما يأتي الإدراك متأخرا.
بداية القصة
في عام 1982م في عدن، خطبت ابنته الكبرى أنغام وقريب زواجها.. فكتبت لوالدها تدعوه لحضور الزواج.. وسواء أدركت البنت أو لم تدرك ظروف وموانع مقدرة والدها من الحضور، فقد كانت كما يبدو قاسية في رسالتها.. وموضوع قسوتها ـ كما تفسره حالة أبوبكر العاطفية لاحقا (انظر تحت البقعي وأبوبكر في مصر) ـ ربما للومها له بأنه يفرق في حبه بينها وأخويها (ألحان وأديب)اللذين في عدن، وبين أخوتها غير الأشقاء من أبيها (أصيل وأخوته) في السعودية.. أي أنه يحب أخوتها غير الأشقاء أكثر من أخوتها الأشقاء من أمها.. هذا الترجيح تفسره حالة أبوبكر النفسية والعاطفية والوجدانية التي كان عليها في مصر بعد تلقيه رسالة ابنته.. حيث تبدأ حكاية أو قصة أغنية “حجة الغايب معاه”، كما يرويها أو رواها علي الشاعر اللحجي الكبير الأستاذ عبدالله البقعي، شاعر الأغنية وصديق بلفقيه.
اللقاء بالشاعر البقعي
الأستاذ عبدالله البقعي التقيته مرة واحدة في حياتي، وكانت الأخيرة.. كان اللقاء في منزل صديقنا الشيخ عبدالرحيم العمودي (أبو أمين) في الشيخ عثمان على مقربة من مدرسة 30 نوفمبر ـ بنين، خلف مسجد الهاشمي بالشيخ عثمان.. كان عام 2002م، وكان يوم خميس في مقيله.. كعادتي الخميس أكون في مقيل الشيخ عبدالرحيم العمودي، حيث يكون يوما جميلا، فهو مجلس فني حافل، ينسيك هموم وتعب أسبوع عمل.. يكون غالبا بوجود فنان محلي من عدن ولحج وحضرموت وأبين، وغالبا كان يكون في المقيل الفنان مبخوت بن ثابت ـ الله يرحمه ـ والفنان الشاب العذب ناصر فدعق من حبان شبوة.
في ذلك الخميس أخبرني الشيخ العمودي بأن المجلس سيستضيف الشاعر الغنائي الكبير عبدالله البقعي.
والتقينا في مقيل الشيخ العمودي عصر ذاك الخميس. جلست عمدا وقاصدا بجانب شاعرنا الكبير البقعي لما أخبرني الشيخ عنه.. فقد شوقني حديث أبو أمين في البقعي.. الرجل الذي إذا جاء الحديث في عبدالرب إدريس وشهرته لابد أن يبدأ الحديث من عند عبدالله البقعي.. كان من أسباب شهرة وانتشار اسم عبدالرب في الغناء وتحديدا عندما كان في الكويت في الستينات. وكيف أن البقعي وإدريس شكلا ثنائيا جميلا ورائع..
رجل معتدل القامة والجسم.. أنيق مرتب جميل في لبسه بطابعه اللحجي الأصيل.. كوفية زنجباري، صارون (معوز)جاوي أصلي وقميص جميل ووجه هادئ ورجل هادئ لا يتحدث إلا إذا تحدثت إليه. وإذا سألته أجابك.. حكى لي عن حياته الذاتية والشعرية، وكيف أنه كان يكتب القصيدة الغنائية ثم يبيعها بمائة شلن، يتنازل في مقابلها عن حقه الأدبي، ليس طمعا في المال وإنما هيبة واحترام لوالده، رجل الدين الصالح الذي له وجهة نظر رافضة ومعارضة من الغناء والمغنيين..
ولما سألته: مَن مِن الفنانين الذين بعت لهم أغاني وكتبت باسمهم لا باسمك؟ رفض بكل صدق وأمانة ذكر أي اسم.. الأمر الذي أسعدني هو احترامه للاتفاق الذي بينه وبين تلك الأسماء، الذين لا يوجد أحد منهم معنا في نفس المكان، وكان بمقدوره القول حتى من باب السر بيني وبينه.
وقد حكى لي شيئا من تجربته الغنائية في الكويت.. وله تجربته الفنية الغنائية في مصر التي يحكي شيئا منها وعرفت بعضا منها من عم لي كان صديقه ويعيش معه في نفس الشقة..
حتى وصلنا إلى أبوبكر سالم، وجاء إلى القصة التي ذكرنا مقدمتها أعلاه.. قصة رسالة ابنته ودعوته له بحضور زواجها وحيرة أبوبكر بين الظروف المانعة وبين حيرته في إرضاء ابنته.
يقول الأستاذ عبدالله البقعي:
كنا أنا وعبدالرب إدريس في شقة أبوبكر سالم بالقاهرة.. كان أبوبكر في حالة من الحزن وكان يبكي حتى النواح ولم يكف عن البكاء.. بقينا أنا وعبدالرب نواسيه.. تارة أنا أحاول مواساته والتخفيف من حالته، وتارة عبدالرب، وثالثة أنا وعبدالرب معا.. ولم نستطع جعله يكف عن البكاء.. جربنا معه كل المبررات والحلول التي يمكن أن يقنع بها ابنته بعدم استطاعته المجيء إلى عدن وبالتالي حضوره عرسها.. ولكن الأمر لا يبدو يتعلق بابنته بل به أبوبكر نفسه.. لقد فاض عنده كم الحنين والشوق والحب والوجد واللوعة والعاطفة، وغيرها من المشاعر الكامنة، التي بقي يراكمها أو تتراكم في داخله على مدى سنين الفراق، لأبنائه وبناته تحديدا..
بقينا النهار كله تقريبا نحاول مع بلفقيه على الأقل لو يكف عن البكاء قليلا رأفة بعينيه وبصحته.. فالبكاء والنواح ليسا بحل ولا يقدما حلا.. ولكن الرجل كانت قد سيطرت عليه عاطفة الأبوة والأب المفارق جنبا إلى جنب مع حيرته إزاء موضوع عرس ابنته.
انصرف النهار وجاء الليل.. حينها قلت بعجز لأبوبكر : “اسمع يا أبو أصيل.. أنت لك ظروفك.. أنت بعيد عنها.. ومثل ما يقولوا حجة الغايب معاه”.. كأن شيئا فعلته لا أدري ما هو جعل أبوبكر يهتز في جلسته أو مجلسه على الكرسي.. حتى أنني أنا بنفسي تفاجأت.. اهتز في مكانه، استفاق من حالة النواح، استدار نحوي، وأمسك بيدي بقوة وهو يقول لي: “هي هذي ! هي هذي!”.. قلت باستغراب “أيش هي !؟”.. قال “حجة الغايب معاه”.. أريدك تكتب لي قصيدة غنائية فيها تقول “حجة الغايب معاه”.. يكون موضوعها يدور حول مشكلته وتحمل عبارة “حجة الغايب معاه”.. أغنية سيغنيها أبوبكر موجهة إلى ابنته العروس.. تبرر أسباب غيابه عن حضور عرسها.
أصر أبوبكر على هذا الطلب.. ولم يتركني حتى اتممتها.. ثم ألزم عبدالرب إدريس أن يلحنها فور انتهائي من كتابتها. ليلتها لم يتركنا أبوبكر ننام حتى ننتهي منها ـ كتابة ولحنا، وعنوانها "حجة الغايب معاه".
كلمات أغنية “حجة الغائب معاه”:
“حبـيبـي غـاب لكن حجة الغــائب مـعـــاه
نسـا وعــدي نسـا عهدي نسـا د نيا هـواه
أنا ما قول عاداني ولا با قول جافاني
أنا ما قول الإ حجة الغـائب معاه
غيابه هيج الأشـجان في الليل الطويل
وخلا دمعي الهـتان من عـيني يسـيـل
أبدل به بـديـل وحـبي له أصـيل
من أيام الصباء رعرعـت حبي في هـواه
أنا ما قول عاداني ولا با قـول جافاني
أنا ما قول الإ حجة الغائب معاه
يقولوا الناس عنه مايقولوا غيابه طال
وأنا ماهمني مهما يقولوا بقيل أو قال
صحـيح البعـد أثر في كــياني
وتعجز عن لظـا وصفه لســاني
ولو بعده ظـناني ولو هجره كواني
كفاية قول حـجـة الغائب معاه”
هذه باختصار قصة أغنية “حجة الغايب معاه”.. كلمات الشاعر الكبير عبدالله البقعي، ألحان عبدالرب إدريس (قبل الدكتوراه) .. غناء أبوبكر سالم بلفقيه.
لست متأكدا إن كانت هذه أول تجربة وتعاون غنائي بين شاعرنا اللحجي الكبير البقعي والراحل الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، أو أنها كانت فاتحة لمشروع تعاون بعد هذه التجربة.
في كل الأحوال أغنية “حجة الغايب معاه” لاتحمل قصتها وحدها (أغنية، قدر ما تحكي أكثر من قصة بينها) وتعبر عن تجربة ذاتية في حياة أبوبكر، شاركه التجربة والألم والتعاطف صديقان هما: عبدالله البقعي وعبدالرب إدريس.
وربما قد بالغت أو قصرت في بعض الجوانب وذلك ليس بقصد التجاوز أو التقصير، فبعد نحو 15 عاما على سماع الحكاية من شاعرنا البقعي في منزل الشيخ عبدالرحيم العمودي ينالها شيء من النسيان.
ولكني أصر على النزول إلى الشاعر الكبير عبدالله البقعي من قبل المهتمين، فالرجل كتاب تاريخ فريد ومتنوع وثري يحمل بين طياته كثيرا من الأسماء والوقائع والقصص في الفن والفنانين والأغنية.. وأول فصوله و قصصه (الشاعر عبدالله البقعي).
*الخاتمة
تمكن أبوبكر سالم من السفر إلى عدن في صيف عام 1982م ومن حضور زواج ابنته.. لا أعرف كيف تيسرت له الأمور.. فالله كفيل بتيسير الأمور لعباده.. وفي عدن استقبل أبوبكر استقبالا عظيما على الصعيدين الشعبي والرسمي. وأقام حفلة غنائية، حضرها جمهور عريض.. ثم غادر عدن وهو يغني حجة الغايب معاه.
رحم الله فناننا الكبير أبو أصيل أبوبكر سالم، الذي توفي يوم 10 ديسمبر 2017م بالسعودية ودفن هناك.
وأطال الله في عمر شاعرنا الفذ عبدالله البقعي ومده بالصحة والسلامة..
وشكرا لصديقنا الشيخ عبدالرحيم على هذه الفرصة الكريمة التي جمعتني بشاعرنا البقعي.
يكتبها : أ.م.د/ علي سالمين