> د. أحمد عبد اللاه
جيوش الفضاء خير من جيوش الأرض والحبر الإلكتروني أكثر فاعلية من دم الإنسان! لأننا لم نعد في زمن «دع سمائي فسمائي محرقة»، ولكننا محشورون في ساحات «جند الله العِلّيين» نستمع لموالد الفضائيات اليومية، وهي تحمل مواويل وقراءات وأخبار.. تصنع بطولات مقروءة على الصفحات ومسموعة في الشاشات، وتهدّ بطولات مكتوبة بالأحمر على الأرض. تلك هي قواعد اللعبة عند البعض وتلك هي القوة الناعمة التي تحولت في الحالة اليمنية إلى جيش فتاك يخدش، إن أراد، وجه الإقليم وليس فقط وجه المغضوب عليهم في الداخل.
لقد نجح، بإسناد إعلامي ضخم داخلياً وخارجياً، في اختطاف «الربيع اليمني» كما فعل نظراؤه في ربيع القيامة العربية. لكنه، على الواقع، لم يستطع الدفاع عن مكاسب «ثورة فبراير» عشية 21 سبتمبر، وفرَّ من صنعاء تاركاً قواعده تواجه مصيرًا مجهولا، مردداً ذريعته المدوية «نحن لا نقاتل نيابة عن الدولة»، فهو يحتاج إلى دولة جاهزة يحكمها، أو إلى فوضى اللادولة ليشكلها إمارةً إمارةً وفقاً لفرمانات المرشد القاضية استباقاً بـ«عثمنة» مشاريع الخلافة الحديثة.
ولأنه لا يؤمن بالهزيمة الكاملة، كما فعل الحزب الاشتراكي قبل ذلك التاريخ بعشرين عاما، تحول الإصلاح إلى حزب تحت الأرض في مناطق سيطرة الحوثيين، وفي الوقت ذاته حرّك قدراته السياسية والإعلامية في «المحافظات المحررة» متقمصاً عباءة الشرعية الفضفاضة، ليسيطر عسكرياً ومالياً وإدارياً على بعضها. ومع أنه خلال سنوات الحرب الفائتة لم يحقق أي إنجازات عسكرية كبرى تؤهله للعب دور محوري في شراكته مع دول التحالف، إلا أنه نجح تماماً في اختطاف الشرعية وأصبح الجميع تحت رحمة إعلامه الذي انتهج «سياسة الفتك» بخصومه وحتى بأصدقائه المؤلفة عقولهم إن استدعت الضرورة.
لم يتوقف حزب الإصلاح هنا بل ذهب برشاقة لاعبي السيرك، إلى توزيع أدوار مختلفة. ففيما يخوض بعض أعضائه وقياداته حرب قطر ضد الإمارات والسعودية، تمسك البعض الآخر بالتحالف خاصة بالمملكة السعودية حفاظاً على المكتسبات التي يحققونها في بناء قوة عسكرية في مناطق سيطرتهم.
وأخيرا يبدو أن هناك محاولة جادة في الوصول إلى الوجبة الرئيسية المتمثّلة في «الاختطاف الرمزي» للتحالف العربي بما حمل، من خلال صفقة ما، ليصبح الإصلاح، بلا منافس، حزب اليمن الأول، مستغلا الفراغ الذي أحدثه رحيل الرئيس السابق صالح وانهيار جيشه وأمنه وحزبه ودولته العميقة.. ويعود بقوة غير مسبوقة بعد أن اعتقد كثيرون بأن تهمة الإرهاب التي ألبستها «الرباعية» تنظيم الإخوان ستضعفه باعتباره من أهم وأقوى تنظيمات الإسلام الحركي في العالم العربي.
دول التحالف العربي التي لم تكن قد امتلكت رصيدا سياسيا وعسكريا كافيا لإدارة ملفات كبيرة مثل سوريا والعراق، أصبحت أيضاً بلا حليف يذكر في الشمال اليمني، الأمر الذي دفعها لأن تتبنى ما أسمته «اختبار النوايا»، على اعتبار أن حزب الإصلاح استفاق في إحدى الصباحات الرومانسية ليجد نفسه حزبا «لا إخوانيا»!! وتلك «تقية» ربما يحتاجها التحالف العربي أكثر مما يحتاجها حزب الإصلاح ذاته.
ذلك يؤكد بأن دول التحالف، مثل غيرها، تتخذ سياسات انتقائية «تكتيكية» وفقاً للضرورات التي قد تجعلها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تجاوز حلفائها الآخرين، وأولهم السلطة الشرعية التي أصبحت مجرد حامل لواء في معركة أكبر من حجمها ومن حضورها السياسي والشعبي… خاصة وأن الحكومة «الكارثة»، المنتفخة إدارياً وبيروقراطياً، مصابةٌ بالشلل التام جراء انكماشها في دائرة العائلات والمقربين والموالين، وغياب تام للعقول الفاعلة… وبعد أن تفرغت لمواجهة الحراك الجنوبي وأصبحت «متعهدة» حفلات وعروض عسكرية، منهمكة في مطاردة راية دولة الجنوب أينما رفرفت حتى وإن حركتها رياح الشهداء الذين ملأوا ساحات القتال شمالاً وجنوباً في مواجهة الانقلابيين والإرهاب على حد سواء.
ذلك الضيق السياسي والأخلاقي حصر «السلطة الشرعية» في معركة حزب الإصلاح ضد الآخرين، وأصبحت غارقة في تكرار خطبة «قاضي قضاة قرطبة» حول: الأقاليم والدولة الاتحادية ومخرجات الحوار إلى آخر طبول الزار السياسي، متناسين أن التحالف العربي جاء لصد التمدد الإيراني ولم يأتِ لاستكمال المرحلة الانتقالية التي تبخرت خلال توقيع ما سُميت حينها بـ«اتفاقية السلم والشراكة»… بعد أن سقطت صنعاء ثم أنتجت حرباً وحروباً ومتغيرات جذرية غير مسبوقة في التاريخ.
الجنوب لاعب رئيس في معادلات السلم والحرب، يوزع دمه في جبهات القتال أينما تقتضي الحاجة، حتى وإن اختفى من الشاشات ومن نشرات الأخبار، وأصبح دون جمهور ودون صفة معلنة ومعترف بها... لأن القضية الجنوبية في قانون الحرب الجارية وقواعد الشراكة التي صممها طرف واحد، مؤجلة. وهذا الأمر وإن بدا طبيعياً، إلا أن هناك حاجة داخلية ماسة إلى «قراءات وحسابات موضوعية عميقة»!