> مازن علي حنتوش
تعتبر الأغاني التراثية في اليمن، أحد الطقوس الخاصة لجلسات مضغ القات عند اليمنيين، حيث يفضل بعضهم خلال جلسات (المقيل)، لون الغناء التراثي الصنعاني، ويحبذ آخرون غناء التراث اللحجي أو الحضرمي أو العدني أو التعزي اواليافعي، وبرغم كل هذه الطقوس،
لازالت الشواهد خير دليل لهؤلاء المستمعين على عشقهم للفن اليمني على مدى التاريخ، الذي يفوح في كل جبل وواد، ومن كل ركن من أركان اليمن، فهذا البلد الذي استطاع، رغم مرور القرون وتبدل الأحوال، أن يحافظ على أصالة فنية، قل نظيرها في عالم اليوم، قد لا يكون استطاع أن يحافظ على كل روافد هذه الأصالة، ومن بينها التراث الموسيقي، فصار هذا التراث مهددا اليوم بالتلاشي والضياع والسرقة، رغم أنه تفاعل إيجابياً مع الآخرين، تأثراً وتأثيراً .
«على أننا اذا أردنا مقايسة اللغة للأغاني بما سواها من اللغات، رجعنا بها إلى أحقاب بالية وعصور خالية، ونظرنا إلى عاد وثمود وآل تبع ويعرب وطسم وكديس، فنظرنا إلى تلك المدنية العربية والحضارة الحميرية، التي بقيت لنا اطلالها تنشد على نغماتهم الشعرية، فإننا بتلك الأشعار تتبعنا آثار العمران القديم، فاهتدينا إلى أن تلك الحضارة لا تخلو من كمالات في ظروفها وضروبها، ومن البديهي أن الغناء والطرب من ألزم الضروريات، وإذا علمنا أن العرب سكان اليمن والحيرة وحضرموت وسبأ وغيرها، قد أتوا من الذلاقة وصفاء الصوت وحسنه درجة سامية – وعرفنا منزلة هؤلاء من الشعر وتقاسيمه، ايقنا ان العبريين على قدمهم – وهم الذين ضارعوا العرب في الأعصر القديمة – لم يتقدموهم في صوغ الألحان والتغنيّ بها».
لذلك.. في جميع المصادر التاريخية، كُتب حول عراقة وحضارة اليمن في الغناء، أي فيما قبل التاريخ، إلى عصر الإسلام، فاليمن كانت موجودة بغنائها من خلال أمرائها: ابن اليشرح، وعلس بن زيد.. وكثير من الأسماء التي تغنت بالغناء اليمني على مدى التاريخ -وليس هذا من الزهو أو المبالغة إطلاقاً- وإنما التاريخ لا يذكر لنا أي غناء، أو اسم أي مغنٍ من أي بلد عربي كان، إلا في صدر الإسلام، لذلك عندما نأتي إلى أي كتاب يتحدث عن الموسيقى نجد اليمن في مقدمة الجميع.
الغناء المتقن فن يمني مازال معمولاً به في اليمن حتى اليوم، وبناؤه الموسيقي يقوم على استهلال غنائي خال من الإيقاع، يؤدى بأسلوب الموال، ثم يتحول في جزئه الثاني إلى الأداء بمرافقة الإيقاع الثقيل، ليصير هزجاً سريعاً بمرافقة الرقص في جزئه الثالث، وأشهر من غنى هذا اللون في اليمن الفنان الكبير والأشهر على الإطلاق محمد حمود الحارثي، لروحه السلام، ولصوت أنغامه الخلود، وأيضا الفنان الكبير أحمد بن أحمد السنيدار، الذي له دور في إحياء وتطوير التراث الغنائي اليمني القديم، واللون الصنعاني، على وجه الخصوص، المعروف بثرائه وصعوبته.
وإذا اتجهنا قليلًا إلى شرق هذا الجنوب، سنجد الفن الغنائي الحضرمي، ومن فنانيه المشهورين السيد البار ومحمد جمعة خان والفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه.
وفي عدن عاصمة الجنوب، سابقًا، نشأت، منذ اربعينيات القرن الماضي، مدرسة أخرى من الغناء اسستها مجموعة من الشباب الذين برزوا في مجال الاغني العدنية الحديثة، وهم كثيرون، يأتي في مقدمتهم خليل محمد خليل وسالم احمد بامدهف واحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله وطه فارع واحمد يوسف ومحمد مرشد ناجي، ولا سيما في مسيرته مع الشاعر الغنائي محمد سعيد جرادة، كما في أغنيته “هي وقفة لي لست أنسى ذكرها أنا والحبيب”، بالإضافة إلى أغانيه الوطنية والعاطفية الاخرى التي غناها لشعراء يمنيين كبار من أبرزهم الشاعر لطفي جعفر أمان.
بعد هذه الباقة من الفنانين أتى جيل من الشباب في لحج منهم الفنان أحمد يوسف الزبيدي وبن حمدون والكريدي وفيصل علوي، وعبدالكريم توفيق في أغانيه “يا نجمة الفجر” و“بو العيون السود” وهذه الأخيرة من كلمات الشاعر الغنائي صالح نصيب.. هذا بالنسبة للجنوب.
اما في الشمال، فهناك عدد من المدارس الفنية على رأسها فن «الشعر الحميني» المشهور بألحانه الجميلة وشعرائه المجيدين، من أمثال الشاعر علي العنسي صاحب ديوان «وادي الدر» والشاعر الآخر عبدالرحمن الآنسي وابنه أحمد الآنسي صاحب ديوان «ترجيع الأطيار» وقصيدة «يا حمامي أمانة مادهاك» والشاعر الخفنجي صاحب قصيدة «وابروحي من الغيد» التي غناها مجموعة من الفنانين، من أشهرهم الفنان العدني محمد سعد عبدالله وأحمد السنيدار وعلي السمه وعبدالرحمن الآنسي، كما غنى هذه الأغنية عدد من فناني الخليج، من بينهم الفنان يوسف الضاحي، والفنان محمود الكويتي، وصاحب الصوت الشجي الفنان عوض الدوخي، كما غناها -فيما بعد- صوت الأرض الراحل طلال مدّاح، كما أن الذين عايشوا تلك الفترة لم ينسوا «المدرسة الكوكبانية» بزعامة الشاعر الحميني محمد عبدالله شرف الدين، ومن الفنانين الذين امتطوا صهوة هذه المدرسة الفنان اليمني الراحل محمد حمود الحارثي والثلاثي الكوكباني محمد الكوكباني وسعد الكوكباني وعبدالوهاب الكوكباني.