نعلم جميعا أن صديق هذه الأمة أبو بكر قد أولى العراق نظرة مهمة وأولوية
خاصة لعلمه بمكر الفرس وخطرهم على الإسلام.. واختار لقتالهم رجالا أولي باس
شديد أمثال سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه وأسد العراق
المثنى بن حارثة الشيباني وغيرهم كثير.. حتى إنه رفض أن يشترك في حروب
العراق ممن عاد إلى الإسلام بعد ردته، لأنه أراد قتالا صافيا من الشوائب
ليكسر به شوكة الفرس.
قائد الفارس يطلب الإمداد
بعد الانكسارات
المتتالية للفرس في عدة مواجهات مع المسلمين.. قرر قائد الجيوش الفارسية
(هرمز) أن يطلب الإمدادات من كسرى حتى يتجهز للمسلمين في معركة سميت بذات
السلاسل في جنوب العراق... وقد اطلع هرمز كسرى على تفاصيل أرض المعركة وعلى
شخصية خالد بن الوليد وباسه.. وبهذا أمر كسرى بإمدادات ضخمة إلى هرمز
بقيادة قائد فارسي كبير اسمه (قارن بن قرباش).. وأمره بان ينجد جيش هرمز..
وفي نفس الوقت يمنع سقوط مدينة الآيلة وهي البصرة بيد المسلمين بسبب
أهميتها للفرس كمنفذ بحري وتجاري مع العالم الخارجي.
وصلت المعلومات الاستخبارية إلى قائد
جيش المسلمين خالد بن الوليد أن هناك مددا قادما إلى هرمز، وهنا استغل خالد
معلوماته العسكرية بثقل الجيوش الفارسية في التحرك وأنها تحتاج إلى فترة
للوصول.. فأعطى أوامره العسكرية للتحرك إلى هرمز قبل وصول المدد.. وفعلا
تمكن رضي الله عنه من إلحاق هزيمة نكراء بالفرس في معركة ذات السلاسل
الشهيرة.
سمع قارن قائد الجيش الفارسي بهزيمة صاحبه هرمز وكان لا يزال
في منطقة المذار وهي منطقة تقع على مسافة 8 كم جنوب شرقي منطقة قلعة صالح
في محافظة ميسان الحالية وعسكر فيها وجعل نهر دجلة وراء ظهره، ووضع فيه
السفن استعدادا للهروب إذا كانت الدائرة عليها.
وصلت مجاميع من
المنهزمين من معركة ذات السلاسل إلى المذار حيث كانوا في حالة يرثى لها،
وهناك نشب خلاف وجدال في كيفية مواجهة المسلمين، فالمنهزمين من جيش هرمز قد
تقابلوا مع خالد والمسلمين من قبل، فلذلك يفضلون التحصن في المذار انتظارا
لقدوم المسلمين، والإمدادات القادمة الأخرى، أما الفئة التي لم تر
المسلمين من قبل ولم تذق من باسهم رأوا أن يخرجوا للصدام مع خالد وجيوشه.
تحرك الجيش الإسلامي إلى المذار
كان
خالد بن الوليد يعتمد في حروبه دائما على سلاح الاستطلاع الذين ينقل أخبار
العدو، ولقد وصلته رسالة المثنى بعسكرة الفرس في المذار، فأرسل إلى خليفة
المسلمين برسالة مستعجلة يعلمه بأنه سوف يتحرك للمذار لضرب إمدادات الفرس
هناك.
توجه خالد بجيش المسلمين بسرعة خاطفة إلى المذار، وطلب من المثنى
أن يعود بجيشه ليستلم طليعة من طلائع الجيش الإسلامي، ليدخلا إلى أرض
المعركة كجيشين للمسلمين وليزيد من رعب ورهبة الفرس.. وفعلا اقترب الجيشان
من المذار.. وكان تعداد جيش المسلمين ثمانية عشر ألفا.
المبارزة قبل المعركة
أراد قارن أن يرفع من معنويات جيشه المهزوزة رغم أنه بلغ الثمانين ألفا بعد انضمام فلول المنهزمين إليه، وكان مطمئنا إلى قدراته العسكرية للمبارزة، فخرج طالبا المبارزة من جيش المسلمين.. وتقدم فارسان من فرسان المسلمين في نفس الوقت وهما قائد جيش المسلمين خالد وآخر سبقه بدون إذنه وهو أعرابي من البادية اسمه (أبيض الركبان معقل بن الأعشى)، وتوجه كالصاعقة باتجاه قارن وبعد مبارزة قصيرة قتل معقل قارن.. فصدم الفرس لهول الموقف.. وهنا تحرك الانوشجان محاولا سد هذه الثغرة النفسية فتقدم للمبارزة فانقض عليه عاصم بن عمرو وقتله.. فانهار الفرس تماما.. ولم يبق من القائد الأخير (قباذ) إلا أن يقدم على المبارزة لعله يكسب الجولة، فأرسل الله إليه الصحابي الجليل عدي بن حاتم فقتل في الحال.. فكبر المسلمون تكبيرة هزت الأرض والسماء.
الجيش الفارسي بلا قيادة
الآن
أصبح الجيش الفارسي بلا قيادة، ولكن لم يمنعهم ذلك من القتال على حنق
وحفيظة على المسلمين، فنشب قتال عنيف وكانت الخطة الخالدية هي اختراق جبهة
الجيش الفارسي والالتفاف عليه لإبادته في المذار، فدارت معركة شديدة وحامية
الوطيس تحول فيها المسلمون إلى أسود غالبة، فاستبسلوا وبذلوا جهودا كبرى
في المعركة.. ولكن لغياب القيادة اضطرب أمر الجيش الفارسي، وعمه الارتباك،
وما لبث الفرس حتى هربوا في كل مكان، وألقوا أنفسهم في النهر وهم عراة، لأن
الجندي الفارسي كان يضع الحديد والدروع التي لا يمكنه السباحة بها.. وقتل
منهم في أرض المعركة ثلاثون ألفا غير من غرق في النهر.
وتدل أخبار
التاريخ التي وصلتنا أن المسلمين لم يتمكنوا من مطاردة الفلول الفارسية
المنهزمة بسبب المياه في منطقة الاهوار التي حجزتهم وحالت دون ذلك فقد كان
ذلك هو موسم فيضان منطقة الاهوار، وهو الذي يعيق الاستمرار بالملاحقة.. كما
أن خالدا وإخوانه فكروا في أن المضي بالتقدم نحو وادي دجلة سيجعل الفرس
يستميتون في الدفاع، وقد كان المثنى بن حارثة هو من أشار في عدة معارك على
عدم حصار فلول المنهزمين.