ما نكس رأسه ولا اهتز أساسه، هو الصرح العتيد، والأسطورة المُعجزة، اسمه اللواء التدريبي كما اسمه "العند"، مصنع الرجال، كل الناس تعرفه الصغير والكبير، كالطود الشامخ تهابه النفوس.
مرة عندما ذهب القادة الجنوبيون إلى 22 مايو، ومرة في ظل حكومة الرئيس صالح، ومرة في زمن حكم الشرعية برئاسة هادي، ومرة في زمن التحالف.
هو العند ميدان البواسل، محطة المغاوير بين الثانوية والجامعة.
اسألوهم كيف قضوا أول ليلة في بُراقات اللواء التدريبي؟ اسألوهم عن أول طابور صباح قبل أن تشرق الشمس.
أولئك الشباب غادروا منازلهم في المدن والأرياف بعد أن حزموا أمتعتهم متجهين إلى "العند"، ذهبوا يحملون أشواقهم وجديد أحلامهم، تركوا ذكريات الصِبى وأيام المُحبين، وفارقوا لأول مرة أهلهم وناسهم إلى مكان ينسيهم أيام الراحة والدّعَة وجولات الحرية، ذهبوا إلى العَنَد وما أدراك ما العند!
هو المكان الذي تتعلم فيه رياضة الجري وقت الغَبَش.
حتى إذا أتى يوم الخميس تنفس المجندون الصعداء واسترخوا قليلاً واستراحت السواعد والأقدام.
تَقْدِم الأمهات وما أدراك ما الأمهات، تلك الأرواح الليّنة والقلوب الميّاسة والأحضان الدافئة، يقْدِمن بالهدايا لأبنائهن المجندين من الكيك العدني والحلوى والقرمش اللحجي والسندويتشات، وما لذّ وطاب من الوجبات الخفيفة.
بدأ يعيش مرحلة جديدة من "البنوّة" والاعتزاز بالوالدين، وشعور بنعمة العيش مع الأُسرة والحنين إلى البيت والشوق إلى ملاعب الطفولة ومراتع الصبى.
في ضل صمت عربي ودولي مريب عززته أدوار ضعيفة لحكومة فاشلة، مازالت تبحث عن السلام الوهم.
وماذا عساه أن يفعل المبعوث الرابع؟
هو العَنَد له من اسمه نصيب، فهو العنيد الذي يستبسل لولا أنه بِيع أربع مرات.
هو العند لولا أنه حوصر بالمؤامرة وفكك بالوحدة يوم فتن الجميع بالعلم المرفوع واسترخى الرجال الصِيد وطغت سَكَرة النفوس على نظرات العقول.
اسألوا أبناء الجنوب أين ذهبوا بعد رابع ثانوي بعد أن دعاهم راديو عدن إلى التجنيد؟
اسألوهم عن الميدان الأحمر والميدان الأسود ودروس التدريب الناري، أسألوهم ماذا فعلوا بالكلاشينكوف والماكريوف؟
مدرسة الإعداد والاستعداد، محضن الرجولة الذي يعلمك كيف تنتظم في الطابور بعد دقيقة من صفارة الإنذار.
اسألوا أبناء الجنوب كيف مضى عليهم أول أسبوع وهم يتلقّون التدريبات دون توقف، ويلقنون فنون الرياضة وتمارين الجري السريع والجري المتوسط والجري على مهل؟
يوم الخميس كان يوماً بهيجاً للمجندين في العَنَد، تأتي الأمّهات بالأشواق ويقبل الآباء بالحنين إلى فلذات الأكباد الذين فارقوهم لأول مرّة، كما يأتي الأشقاء والشقيقات، يقْدِمون إلى الزيارة عند بوابة العَنَد الرئيسة القريبة من خط الأسفلت في يوم مشهود تزدحم فيه المشاعر وتخنق العَبَرات الحناجر لحظة العناق المبلّل بدموع فرحة اللقاء.
فتبدو بوابة العَنَد وقت العشي كأنها مهرجان فرح، وتبدأ لحظات المؤانسة والملاطفة والسؤال عن الأحوال، ويبدو المجنّد الذي غادر منزله وهو الولد المدلّل والفتى الغض، قد تغيّر لونه فصار الولد الأسمر الذي ضربته شموس العند والفتى الخشن الذي عصرته ميادين التدريب.
كل هذا كان يفعله العند، حتى صنع جيشاً قوياً، وجنداً مغاوير انتصروا وما هزموا، حتى تسامق الجنوب وعلت هامته، وكان في المقدمة من وطن العروبة دولة وجيشاً، وصار شامةً في جبين الدهر، ثم يأتي اليوم من يذبح أبناء العند بالمسيّرات والصواريخ وتتحول منصاته وبراقاته إلى دماء وأشلاء.
وماذا عساه أن يفعل المبعوث الرابع؟