بات استيلاء الحوثيين (جماعة أنصار الله) على مدينة مأرب وارداً.
ثمّة نيّة واضحة لإنشاء دولة مستقلّة في شمال اليمن تدور في الفلك الإيراني.
يأتي غياب الوضوح الأميركي بوقت لم تعد فيه إيران تخفي أن لديها جيوشها في المنطقة وأنّها مستعدّة لاستخدام هذه الجيوش لتحقيق أهداف سياسية، خصوصاً في تعاطيها مع إدارة بايدن.
ليس معروفاً هل ساهمت الجولة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في طمأنة دول المنطقة المعنيّة مباشرة باليمن، في مقدّمتها المملكة العربيّة السعوديّة؟
ليس مفهوماً، في أيّ شكل، هل من استيعاب أميركي لمعنى وجود الكيان الحوثي في شمال اليمن، وهل بات مطروحاً أن تتدبّر دول المنطقة أمورها بنفسها بعيداً عن الحلف التقليدي بينها وبين الولايات المتّحدة؟
اكتشفت إدارة بايدن فجأة، قبل أشهر قليلة، بلسان وزير الخارجيّة أنطوني بلينكن، أنّ هناك سبعين ألف أميركي يعملون في السعوديّة أو يقيمون فيها وأنّ الصواريخ الباليستية الحوثيّة تشكّل تهديدا لهؤلاء.
إذا كان خيار الاستسلام أمام إيران خيار إدارة بايدن، فهذا الاستسلام ليس خياراً خليجياً، ذلك أنّه سيكون من الصعب على دول المنطقة القبول بالهيمنة الإيرانيّة والرضوخ لها من جهة والتعايش مع الوجود المباشر لـ "الجمهوريّة الإسلامية" في اليمن من جهة أخرى.
تبدأ المقاربة بالاعتراف بأنّ "الشرعيّة" القائمة في اليمن ليست شرعيّة، لا لشيء سوى لأنّها عاجزة عن مواجهة الحوثيين. يزيد من عجز هذه "الشرعيّة"، التي لم تعد هناك فائدة من إعادة تشكيلها، كونها باتت تمثّل خير حليف للحوثيين. هؤلاء يحققون يومياً تقدماً على جبهات القتال، خصوصاً في مأرب.
هناك في واشنطن من يتجاهل أنّ الحوثيين كانوا إلى ما قبل فترة قصيرة في المخا، وأن إيران تباهت بأنّها أصبحت تسيطر على مضيق باب المندب الذي يتحكّم بالملاحة في البحر الأحمر مثلما تتحكّم بمضيق هرمز.
يخطئ أيضاً من يعتقد أنّ لا وجود لقوى أخرى غير "الشرعيّة"، التي يمثّلها الرئيس المؤقت عبدربّه منصور هادي والإخوان المسلمون، قادرة على الدخول في مواجهة مع الحوثيين.
هذه القوى التي تتجاهلها الإدارة الأميركية لا يمكن أن تبقى ساكتة إلى الأبد على الرغم من وجود هموم مختلفة لدى "الشرعيّة". تتمثّل هذه الهموم في محاربة "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي يدعو إلى الانفصال والذي يسيطر عمليّا على عدن ومناطق جنوبيّة أخرى.
لا أجوبة نهائيّة عن مثل هذا النوع من الأسلحة قبل معرفة نتائج ما سيؤول إليه الوضع في مأرب، حيث لا تبشّر التطورات الأخيرة بالخير.
"العرب"
اشتد الحصار على مأرب في مرحلة تبدو فيها إيران مصرّة على جعل المليشيات التابعة لها في اليمن تسيطر على المدينة ذات الأهمّية الاستراتيجية.
يفرض مثل هذا التطوّر طرح سؤال في غاية الأهمّية. هل قدر دول شبه الجزيرة العربيّة التعايش مع كيان سياسي، أقرب إلى قاعدة صواريخ وطائرات مسيّرة إيرانيّة في اليمن؟ يبدو مثل هذا السؤال مشروعاً في ضوء غياب الوضوح في سياسة إدارة جو بايدن التي لا تمتلك سياسة محدّدة تجاه المشروع التوسّعي لـ "الجمهوريّة الإسلاميّة".
من بين هذه الجيوش، كما يقول مسؤولون في طهران، الحوثيون في اليمن و "حزب الله" في لبنان و "الحشد الشعبي" في العراق، والمليشيات المذهبيّة المختلفة التي تشارك في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي في سوريا على شعبه.
زار سوليفان السعوديّة ودولة الإمارات ومصر في محاولة واضحة لشرح الخطوط العريضة للتوجهات الأميركية في المنطقة في أعقاب الانسحاب من أفغانستان وسحب بطاريات صواريخ من السعوديّة.
من بين أخطر ما تنطوي عليه السياسة الأميركيّة المعتمدة حاليا ذلك الاستخفاف بالحوثيين من جهة وبأبعاد سيطرتهم على جزء من اليمن من جهة أخرى.
لم تفعل شيئا في مواجهة هذا الخطر. هذه إدارة تبحث عن تسوية مع الحوثيين (جماعة أنصار الله) ومع إيران من دون أيّ إدراك للنتائج الكارثيّة لمثل هذه التسوية في غياب ضمانات حقيقية وأساسيّة لدول المنطقة التي تعي تماما أنّ أيّ رفع للعقوبات عن إيران سيوظّف في دعم جيوشها في المنطقة العربيّة.
مثل هذا الرفض للاستسلام أمام إيران يتطلب مقاربة مختلفة لموضع اليمن برمته.
يضيق الحصار أكثر فأكثر على مدينة مأرب التي تحوّلت إلى رمز يسعى "أنصارالله" للسيطرة عليه لتأكيد أنّ في استطاعتهم إقامة دولة قابلة للحياة تمتلك حدّا أدنى من الثروات الطبيعية، من نفط وغاز، وميناء مهمّ على البحر الأحمر هو الحديدة.
يغيب عن الإدارة الأميركية أنّ إيران تسعى لإيجاد موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة كي يسهل عليها تطويقها من كلّ الجهات وكي تتمدّد أكثر في اليمن متى تسمح لها الظروف بذلك. تكمن مشكلة الإدارة، التي رفعت الحوثيين عن "قائمة الإرهاب" حديثاً، في أنّها تتعامى عن خطورة ما يدور في اليمن وتأثير هذه الخطورة على دول المنطقة.
يخطئ كلّ من يعتقد أن إدارة بايدن مختلفة عن إدارة باراك أوباما الذي اختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج وأزماتهما بالملف النووي الإيراني.
صحيح أن الحوثيين جزء من المعادلة اليمنيّة ولا يمكن شطبهم من هذه المعادلة، لكن الصحيح أيضا أنّ التركيبة القبلية اليمنيّة لم تنته بعد تماما. كذلك، توجد قوى عسكرية في غاية الأهمّية استطاعت الصمود وإخراج الحوثيين من عدن ومن المخا ومواجهتهم على جبهة الحديدة.
مع مرور الأيّام، يزداد الوضع تعقيدا في اليمن. كلّ ما يمكن قوله في ضوء السياسة التي اعتمدتها إدارة بايدن أنّه يبدو مطلوباً قبول دول الخليج بأمر واقع في اليمن، أي أن يكون قسم منه تحت السيطرة المباشرة لإيران. هل هذا خيار أم دعوة إلى الاستسلام؟
كلّ ما يمكن قوله إنّ الرهان على "الشرعيّة" لم يكن رهانا في محلّه، خصوصاً أنّ الرئيس المؤقت لا يمتلك أي صفة قيادية، وأنّ الإخوان المسلمين يمتلكون أجندة خاصة بهم تلتقي في أماكن كثيرة مع الأجندة الحوثية والإيرانية.