يزعم كثيرون أن العملية التي قامت بها حركة "حماس" في السابع من أكتوبر الجاري، كانت تهدف ضمن أهداف أخرى إلى إفشال المساعي الأميركية في تحقيق الاختراق الأهم في جدار العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، بعدما تمكنت من إنجاز ذلك مع أكثر من دولة عربية، ولربما كان في الأمر شيء من الصحة، لكنه يغفل أن زمن الإعداد لتلك العملية لم يكن قريبًا، كما أن الرياض نفسها لم تكن مندفعة ولا متعجلة للوصول إلى التطبيع بأي ثمن، ولا أبدت لهفة لفتح أبوابها من دون أن يكون المقابل الأساسي هو قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وهي كررت أن ما دون ذلك لا يتوافق مع قناعاتها الراسخة.
إن الذين ما زالوا ينتقدون العملية من زاوية أنها ستكلف"حماس" وسكان غزة وحدهم ثمنًا باهظًا يتناسون أو يتغافلون عن أن الحركة صارت جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي في قطاع غزة، منذ أن فرضت إسرائيل حصارها في عام 2007، كما أن الدعوى بتأثيراتها في السلام مع إسرائيل ليس أكثر من انحراف عن الواقع، لأن الجميع يدرك أن المعيق الحقيقي هو نتنياهو وسابقوه الذين لم تكن قضية السلام في سلم أولوياتهم، بل على النقيض من ذلك تمامًا، فاستمرار حركة الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة الغربية لم يتوقف لحظة واحدة منذ عقود وحول "السلطة" إلى جسد مترهل بلا روح ولا إمكانات ولا قدرة على ممارسة مهماتها داخل الحيز الجغرافي، الذي يعتقد الإسرائيليون أنها لا تستحقه ومن ضمن ما يجب أن تضمه إليها أو أن تطرد من تبقى من سكانه الأصليين.
ما يثير الدهشة هو التراشق بين الذين ابتهجوا لدقة العملية وقدرة المخططين على إخفائها على رغم حجم المشاركين فيها وسرعة تنفيذها، وبين أولئك الذين اندفعوا، كل لأسبابه، في توجيه النقد اللاذع حد السخرية منها، مبررين مقدمًا لإسرائيل كل الإجراءات العقابية التي بدأت في اتخاذها ضد كل من يسكن غزة دون تمييز، ولإظهار إنسانيتها الزائفة فإنها منحتهم ساعات للفرار من جحيم قذائفها، ثم لاحقتهم بها على رغم إدراكها أنهم سيذهبون إلى العراء.
وليس خافيًا أن الهدف الحقيقي الذي تريد إسرائيل تحقيقه تحت ذريعة الرد على عملية السابع من أكتوبر، هو تهجير سكان قطاع غزة من المناطق القريبة من المستعمرات التي أنشأتها، وتقطيع أوصال ما تبقى من الأرض الفلسطينية والعمل على توزيعهم بين الدول المجاورة، وهو مخطط لم تكن الحكومات المتعاقبة في تل أبيب تخفيه، بل كانت تعمد إلى تنفيذه بكل الوسائل وبكل همة.
في هذا السياق لم يكن مفاجئًا الموقف الصريح الذي كرره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لوزير الخارجية الأميركي، برفض مطلق التهجير القسري لأهالي غزة المحاصرين، وحيوية رفع الحصار الجائر الذي شددته إسرائيل على قطاع غزة، بعد العملية المذهلة التي قام بها الجناح العسكري لحركة "حماس" في السابع من أكتوبر، وما فعله ولي العهد السعودي هو امتداد طبيعي للسياسة السعودية منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز، وتكمن أهميته في أنه جاء في الوقت الذي كانت فيه التحليلات الغربية كلها تتحدث عن الزمن المتبقي لإنجاز صفقة التطبيع بين بلاده وإسرائيل.
وجاءت صياغة الرد السعودي بمفردات لا تحتمل التأويل وبلا غموض، معلنًا "الرفض القاطع لدعوات التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزة، وإدانتها استهداف المدنيين العزل هناك"، وهذا في حد ذاته إدراك عميق لحقيقة استهداف قطاع غزة بقسوة لم تعد تميز بين مدني وعسكري، كما أعاد التذكير بأهمية الدفع بعملية السلام، وفقًا لقرارات مجلس الأمن الدولي و"إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية".
إنه لمن المهم في خضم الجدل الإعلامي البائس التأكيد على أن إدانة استهداف المدنيين أمر مبدئي لا خلاف عليه، ويجب أن يشمل الطرفين مع الأخذ بالاعتبار فارق القوة بينهما والهدف النهائي الذي يبتغيه كل منهما، فأحدهما اليوم لا يريد أكثر من العيش الكريم والأمان والاستقرار وتذكير العالم بكارثته، بينما الآخر يسعى بآلته العسكرية الضخمة إلى سحق وتهجير أهل الأرض كما يفعل منذ أربعينيات القرن الماضي.
تعبر المقارنة بين الضحية والجلاد عن اختلال فكري لأن الفلسطينيين لم يبدأوا يومًا الاعتداءات، على رغم كل ما لحق بهم من أذى جسدي ونفسي وتهجير وهدم منتظم للمنازل، بل إن حتى خيامهم لم تسلم من المدافع والقذائف والطائرات، ولا أستطيع أن أتفهم من يتحدثون عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه الفلسطيني، دون تناول الأسباب التي تدفع الإنسان إلى تقديم حياته ثمنًا لمجرد رفع صوته عاليًا، بأنه يعيش مقموعًا مهجرًا محرومًا من أدنى مقومات للحياة الآدمية.
إن العقاب الذي اعتادت تل أبيب على ممارسته ضد الفلسطينيين، والحصار الذي تفرضه من سنوات على كل قطاع غزة برًا وجوًا وبحرًا، والإهانات التي يتلقاها الفلسطينيون صباح مساء، والتدمير المتواصل لكل البنى التحتية المتهالكة، كل هذا لا يجيز إنسانيًا لأحد بأن يهزأ من حجم التضحيات التي دفعها وما زال يدفعها الفلسطينيون، لأنهم يهاجمون عدوهم وليس مقبولًا أن يتشفى أحد بالكلف الباهظة التي سيدفعونها، التي وصفتها المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بأنها "تطهير عرقي وقتل جماعي".