> د. هيثم الزبيدي:
استكمل السلطان هيثم بن طارق آل سعيد الزيارات الرسمية لدول الخليج (بالإضافة إلى الأردن الدولة “الخليجية” غير المنتسبة إلى مجلس التعاون). منذ أول زيارة عام 2021 للسعودية، وزيارة الكويت والأردن قبل أيام، حرص سلطان عمان على التأكيد على أساسيات السياسة العمانية التي ورثها عن السلطان الراحل قابوس بن سعيد. ثمة الكثير الذي تغير في المنطقة بين عهد قابوس واليوم، وشهدت المنطقة تغيرات كبيرة خلال السنوات الثلاث الماضية. العمانيون، بحيادهم المعروف وتدخلهم الصامت في الأزمات، يحاولون دائما التأكيد بأنهم الوسيط المعتمد في الأزمات والبلد الخليجي الذي لا يريد أن يكون طرفا في أيّ نزاع إقليمي.
لكن النزاعات الإقليمية تفرض نفسها. قد لا تغير عمان موقفها من قضية أو أزمة، لكن الأطراف الأخرى عادة ما تتغير بحكم طبيعة الصراعات. عندما بدأ السلطان هيثم عهده، كانت الأزمة الأكبر في المنطقة هي حرب اليمن. اليوم تفرض حرب غزة نفسها على كل مفردات السياسة في المنطقة، ما يجبر الجميع على الإعلان عن مواقفهم، مهما كانت تحفظاتهم على طرفي الصراع الأساسيين، إسرائيل وحماس.
قدمت إيران نفسها حليفا موثوقا للعمانيين. هذا التقديم، على العكس مما يعتقد كثيرون، يسبق زمن الثورة الإيرانية. في مقابلة صحفية تمت قبل عقود مع السلطان قابوس، ذكر السلطان أن عمان لا تنسى الموقف الإيراني الداعم للسلطنة خلال الحرب الأهلية العمانية. كان قابوس يشير إلى موقف الشاه عندما أرسل قواته لدعم القوات السلطانية في مواجهة التمرد المزدوج في الجبل الأخضر وظفار. عمان، في أساسيات نظرتها الإستراتيجية للمنطقة، تصرفت وتتصرف على أساس التعامل مع إيران الدولة، سواء أكانت إيران الشاهنشاهية أم الخمينية. موقف كرره وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي في أكثر من مناسبة ومحفل.
ضمن معطيات المراحل السابقة، يمكن الركون إلى هذه الأساسيات. هذه ليست مجرد حالة سكون سياسية، أي أن تكون عمان وإيران بلدين متقاربين بغض النظر عن طبيعة النظامين الحاكمين، بل هي قراءة للجغرافيا السياسية للإقليم. لكن هذا الإقليم يتغير.
العمانيون سيبقون قريبين من الإيرانيين. لكنهم سيجدون أنفسهم في وضع يفاضل بين خيارات وأولويات. عندما بدأ السلطان هيثم عهده، كان اللاعب الأكبر في المنطقة هو إيران. وفرت طهران كل مقومات صمود الحوثيين في الحرب مع التحالف في اليمن (بعض هذه المقومات اللوجستية والاستخبارية والسياسية تمت بدعم من العمانيين). كانت إيران تحتفل مع السوريين بهزيمة قوى المعارضة في الحرب الأهلية السورية التي كانت طهران طرفا فيها، وتحتفل مع العراقيين بفرض السيطرة على مفاصل الدولة العراقية بشكل مباشر أو عبر الحشد الشعبي الولائي. كانت الولايات المتحدة تستعد للارتحال من المنطقة بطريقة ارتجالية، ولم يكن أحد في الإقليم يشك في جدية انسحابها بعد أن شاهدوا ما حدث في أفغانستان.
لكن حرب أوكرانيا أوّلا، وما تبعها من نزاع على توريدات النفط والغاز والمواد الغذائية، ومؤخرا حرب غزة جعلتا الأمور تختلط وطبيعة الصراع وأولوياته يتغيران في المنطقة. الحليف الإيراني لم يتوقف عند دعم سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من اليمن، بل استغل الموقف للعبث بأمن البحر الأحمر وخليج عدن. هذا كسب لمفتاح إستراتيجي مهم وعنصر قوة بيد طهران. تاريخيّا، كانت سلطنة عمان تحرص على الحياد في المواقف السياسية، لكن مراهنتها الأخيرة في الأمن تبقى على الغرب، وعلى الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. عندما قررت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر تنفيذ عملية “مخلب النسر” عام 1980 لتحرير الرهائن في السفارة الأميركية في طهران بعد احتجازهم من قبل مناصري نظام الخميني الثوري الجديد، انطلقت الطائرات التي تنفذ المهمة من جزيرة مصيرة العمانية. وفي ذروة الحرب العراقية – الإيرانية، وفي عز الترويج لمبدأ الحياد العماني، خزنت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من أطنان العدة والعتاد العسكري في صحراء عمان، للرد على أي تهديد إيراني للمنطقة. عمان حليف قريب لإيران، ولكن ليس على حساب نفسها أو حساب المنطقة.
مقابل الكسب الإيراني من بوابة الحوثيين، شهدت الساحة الموسعة لحرب غزة في المنطقة انكشافا إستراتيجيا لإيران. ففضلا عن عدم تنفيذ إيران الكثير من تهديداتها وعلو صوت الوعيد من دون أثر يذكر لنصرة غزة وأهلها بالفعل، كان الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق نقطة تحول في النظر إلى إعادة تقييم القوة الإيرانية. فلم يتمكن أيٌّ من مئات الصواريخ البالستية وصواريخ كروز والمسيرات الإيرانية من اختراق الدفاع الغربي – الإسرائيلي. الانكماش الإيراني أعقب هذا الفشل المدوي. الحليف العماني أخذ علما بمدى قدرات إيران، ولا شك أنه عدّل طريقة الحوار مع الإيرانيين نحو إقناعهم بالتهدئة بعد أن فشلت مراهنتهم العسكرية.
حرب غزة أنهت التقارب العماني – الإسرائيلي. اليوم تبدو زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمسقط عام 2018 جزءا من ماض، وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين عام 1994 فصلا من تاريخ قديم ما عاد له أثر لا في عمان ولا لدى الإسرائيليين. تغير العمانيون ليصبحوا أقرب إلى الفلسطينيين وأكثر قربا من معاناتهم، وانقلب الإسرائيليون على أنفسهم قبل أن ينقلبوا على المنطقة عندما قاطعوا الفلسطينيين لسنوات ثم ردوا بقسوة غير مسبوقة على عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس الإخوانية بتشجيع من إيران. أي ملمح لعلاقة محتملة بين عمان وإسرائيل جرفه “الطوفان”.
زيارات السلطان هيثم الرسمية لدول الخليج تسعى إلى ترتيب أولويات السلطنة في هذا العالم المتغير. ميناء الدقم إطلالة مهمة على المحيط الهندي، لكن عمان تدرك أنها منطقة عمليات معلنة للإيرانيين والحوثيين. ليس من مصلحة عمان استمرار حالة عدم الاستقرار القائمة والإمعان في التهديدات بمهاجمة الملاحة البحرية من قبل الحوثيين. عمان تريد استقطاب استثمارات أكثر للدقم على شاكلة الاستثمار الهادئ للكويتيين. السلطنة بحاجة إلى استقرار أسعار النفط، وهذا لن يتم من دون تنسيق مع دول أوبك+ الكبرى. لا يمكن تصور حدوث هدوء في حضرموت والمهرة في اليمن من دون تنسيق عال مع طرفي التحالف الرئيسيين، السعودية والإمارات. هل يمكن تصور أن إشارات المصالحة بين البحرين وإيران قد مرت من دون أن تكون للعمانيين يد فيها؟ زيارة السلطان هيثم للأردن تذكير بأن هذا الطرف الشمالي للخليج هو جزء لا يتجزأ من أمن الإقليم، سواء أكان مسمى على قائمة مجلس التعاون أم لا. العمانيون يراقبون أين يمكن للمبالغة في التقارب مع المشروع الإيراني في المنطقة على شاكلة التقارب بين الدوحة وطهران، أن تجر دولة مثل قطر تجد نفسها الآن في وضع مرتبك تتصنع فيه الوساطة، فيما هي تسعى لمسح جانب من تاريخ قريب من العلاقة مع إيران وحماس.
لكن النزاعات الإقليمية تفرض نفسها. قد لا تغير عمان موقفها من قضية أو أزمة، لكن الأطراف الأخرى عادة ما تتغير بحكم طبيعة الصراعات. عندما بدأ السلطان هيثم عهده، كانت الأزمة الأكبر في المنطقة هي حرب اليمن. اليوم تفرض حرب غزة نفسها على كل مفردات السياسة في المنطقة، ما يجبر الجميع على الإعلان عن مواقفهم، مهما كانت تحفظاتهم على طرفي الصراع الأساسيين، إسرائيل وحماس.
قدمت إيران نفسها حليفا موثوقا للعمانيين. هذا التقديم، على العكس مما يعتقد كثيرون، يسبق زمن الثورة الإيرانية. في مقابلة صحفية تمت قبل عقود مع السلطان قابوس، ذكر السلطان أن عمان لا تنسى الموقف الإيراني الداعم للسلطنة خلال الحرب الأهلية العمانية. كان قابوس يشير إلى موقف الشاه عندما أرسل قواته لدعم القوات السلطانية في مواجهة التمرد المزدوج في الجبل الأخضر وظفار. عمان، في أساسيات نظرتها الإستراتيجية للمنطقة، تصرفت وتتصرف على أساس التعامل مع إيران الدولة، سواء أكانت إيران الشاهنشاهية أم الخمينية. موقف كرره وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي في أكثر من مناسبة ومحفل.
ضمن معطيات المراحل السابقة، يمكن الركون إلى هذه الأساسيات. هذه ليست مجرد حالة سكون سياسية، أي أن تكون عمان وإيران بلدين متقاربين بغض النظر عن طبيعة النظامين الحاكمين، بل هي قراءة للجغرافيا السياسية للإقليم. لكن هذا الإقليم يتغير.
العمانيون سيبقون قريبين من الإيرانيين. لكنهم سيجدون أنفسهم في وضع يفاضل بين خيارات وأولويات. عندما بدأ السلطان هيثم عهده، كان اللاعب الأكبر في المنطقة هو إيران. وفرت طهران كل مقومات صمود الحوثيين في الحرب مع التحالف في اليمن (بعض هذه المقومات اللوجستية والاستخبارية والسياسية تمت بدعم من العمانيين). كانت إيران تحتفل مع السوريين بهزيمة قوى المعارضة في الحرب الأهلية السورية التي كانت طهران طرفا فيها، وتحتفل مع العراقيين بفرض السيطرة على مفاصل الدولة العراقية بشكل مباشر أو عبر الحشد الشعبي الولائي. كانت الولايات المتحدة تستعد للارتحال من المنطقة بطريقة ارتجالية، ولم يكن أحد في الإقليم يشك في جدية انسحابها بعد أن شاهدوا ما حدث في أفغانستان.
لكن حرب أوكرانيا أوّلا، وما تبعها من نزاع على توريدات النفط والغاز والمواد الغذائية، ومؤخرا حرب غزة جعلتا الأمور تختلط وطبيعة الصراع وأولوياته يتغيران في المنطقة. الحليف الإيراني لم يتوقف عند دعم سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من اليمن، بل استغل الموقف للعبث بأمن البحر الأحمر وخليج عدن. هذا كسب لمفتاح إستراتيجي مهم وعنصر قوة بيد طهران. تاريخيّا، كانت سلطنة عمان تحرص على الحياد في المواقف السياسية، لكن مراهنتها الأخيرة في الأمن تبقى على الغرب، وعلى الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. عندما قررت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر تنفيذ عملية “مخلب النسر” عام 1980 لتحرير الرهائن في السفارة الأميركية في طهران بعد احتجازهم من قبل مناصري نظام الخميني الثوري الجديد، انطلقت الطائرات التي تنفذ المهمة من جزيرة مصيرة العمانية. وفي ذروة الحرب العراقية – الإيرانية، وفي عز الترويج لمبدأ الحياد العماني، خزنت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من أطنان العدة والعتاد العسكري في صحراء عمان، للرد على أي تهديد إيراني للمنطقة. عمان حليف قريب لإيران، ولكن ليس على حساب نفسها أو حساب المنطقة.
مقابل الكسب الإيراني من بوابة الحوثيين، شهدت الساحة الموسعة لحرب غزة في المنطقة انكشافا إستراتيجيا لإيران. ففضلا عن عدم تنفيذ إيران الكثير من تهديداتها وعلو صوت الوعيد من دون أثر يذكر لنصرة غزة وأهلها بالفعل، كان الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق نقطة تحول في النظر إلى إعادة تقييم القوة الإيرانية. فلم يتمكن أيٌّ من مئات الصواريخ البالستية وصواريخ كروز والمسيرات الإيرانية من اختراق الدفاع الغربي – الإسرائيلي. الانكماش الإيراني أعقب هذا الفشل المدوي. الحليف العماني أخذ علما بمدى قدرات إيران، ولا شك أنه عدّل طريقة الحوار مع الإيرانيين نحو إقناعهم بالتهدئة بعد أن فشلت مراهنتهم العسكرية.
حرب غزة أنهت التقارب العماني – الإسرائيلي. اليوم تبدو زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمسقط عام 2018 جزءا من ماض، وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين عام 1994 فصلا من تاريخ قديم ما عاد له أثر لا في عمان ولا لدى الإسرائيليين. تغير العمانيون ليصبحوا أقرب إلى الفلسطينيين وأكثر قربا من معاناتهم، وانقلب الإسرائيليون على أنفسهم قبل أن ينقلبوا على المنطقة عندما قاطعوا الفلسطينيين لسنوات ثم ردوا بقسوة غير مسبوقة على عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس الإخوانية بتشجيع من إيران. أي ملمح لعلاقة محتملة بين عمان وإسرائيل جرفه “الطوفان”.
زيارات السلطان هيثم الرسمية لدول الخليج تسعى إلى ترتيب أولويات السلطنة في هذا العالم المتغير. ميناء الدقم إطلالة مهمة على المحيط الهندي، لكن عمان تدرك أنها منطقة عمليات معلنة للإيرانيين والحوثيين. ليس من مصلحة عمان استمرار حالة عدم الاستقرار القائمة والإمعان في التهديدات بمهاجمة الملاحة البحرية من قبل الحوثيين. عمان تريد استقطاب استثمارات أكثر للدقم على شاكلة الاستثمار الهادئ للكويتيين. السلطنة بحاجة إلى استقرار أسعار النفط، وهذا لن يتم من دون تنسيق مع دول أوبك+ الكبرى. لا يمكن تصور حدوث هدوء في حضرموت والمهرة في اليمن من دون تنسيق عال مع طرفي التحالف الرئيسيين، السعودية والإمارات. هل يمكن تصور أن إشارات المصالحة بين البحرين وإيران قد مرت من دون أن تكون للعمانيين يد فيها؟ زيارة السلطان هيثم للأردن تذكير بأن هذا الطرف الشمالي للخليج هو جزء لا يتجزأ من أمن الإقليم، سواء أكان مسمى على قائمة مجلس التعاون أم لا. العمانيون يراقبون أين يمكن للمبالغة في التقارب مع المشروع الإيراني في المنطقة على شاكلة التقارب بين الدوحة وطهران، أن تجر دولة مثل قطر تجد نفسها الآن في وضع مرتبك تتصنع فيه الوساطة، فيما هي تسعى لمسح جانب من تاريخ قريب من العلاقة مع إيران وحماس.
إنْ كانت لزيارات السلطان هيثم لدول الخليج دلالات فلعلّ أبرزها أن عمان مهما بدت بعيدة عن إيقاع السياسة في المنطقة، أو قريبة من الحليف الإيراني، يبقى مستقرها الأخير بين أهلها.
العرب اللندنية