كثيراً ما أرادت إثيوبيا التي لا تملك واجهة بحرية أن يكون لها منفذ على البحر، واتخذت قراراً في هذا الشأن لن تتراجع عنه، إذ تراه أمراً إستراتيجياً وحيوياً بالنسبة إلى مستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي.
كان عنوان اللقاء مثيراً ومحفزاً لقبول الدعوة كي أفهم المتغيرات التي حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية، وكيف ترى إثيوبيا دورها في البحر الأحمر وهي التي لا تملك واجهة بحرية تمكنها من أن تصبح شريكاً مباشراً وفاعلاً فيه، وهذا على رغم أنها لا تزال تحتفظ بهياكل القوات البحرية القديمة ومستمرة في تطويرها.
- الوصول إلى البحر
في اليوم الأول لوصولي أبلغني المنظمون بأني سأدير الجلسة الأولى للحوار تحت عنوان "أمن البحر الأحمر: الحرب والتحديات الأمنية الجديدة"، وبعدما اطلعت على أسماء المشاركين فيها ووجدت أن بينهم باحثين إسرائيليين، فقدمت اعتذاري عن إدارة الجلسة وتقبل المنظمون ذلك وطلبوا مني إدارة الجلسة الثانية بعنوان "استكشاف وسائل الوصول إلى المرافئ البحرية: التجارب الدولية للمشاركة في الموانئ البحرية".
كانت الجلسة الثانية مثيرة لنقاش واسع خصوصاً أن أحد المشاركين من الجانب الحكومي الإثيوبي قدم شرحاً تفصيلياً عما قال إنه أحقية بلاده في الوصول إلى البحار، مستنداً إلى التاريخ والجغرافيا القديمة وإلى ما سماه "الواقعية الجغرافية" و"دبلوماسية المرافئ" التي قال إنها تشمل دخول هذه الدبلوماسية في استغلال الفرص التي يتيحها النطاق البحري، وأشار إلى سوابق أتاحت لدول مغلقة ليس لها منافذ بحرية الحصول، عبر اتفاقات ثنائية مع دول الجوار، على حق استخدام مرافئها للأغراض التجارية.
وتحدث المسؤول الإثيوبي خلال مداخلته عن أن بلاده شريك دولي فعال في "الحرب على الإرهاب"، وأن هذا يتيح لها المطالبة بمنفذ بحري يساعدها في تنفيذ المهمة، وأنها من دون ذلك لا يمكنها الإسهام في هذا الجهد، مضيفاً أن البحر الأحمر كان جزءاً من تاريخ بلاده، وأنه من بين الأكثر كثافة سكانية في أفريقيا.
وفي معرض حديثه قال الدبلوماسي الإثيوبي إن أمن وازدهار المنطقة يمكن تحقيقه بالتفاهمات الثنائية والجماعية، في إشارة إلى مذكرة التفاهم التي وقعتها أديس أبابا مع السلطة في جمهورية أرض الصومال، والتي أثارت حفيظة وربما قلق عواصم داخل أفريقيا وخارجها.
- لا تراجع
وكان من الواضح خلال لقاءاتي عدداً من المشاركين الإثيوبيين والأفريقيين أن القرار مسألة لن تتراجع عنها أديس أبابا، وتراه أمراً إستراتيجياً وحيوياً بالنسبة إلى مستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي، وأن الإثيوبيين لا يريدون البقاء مرهونين باتفاق مع دولة واحدة بل يعملون على تعدد سبل كسر عزلتهم البحرية، والأهم أن الحكومة تعمل على تطوير بنيتها التحتية بطريقة سريعة لتحويلها بوابة إلى أفريقيا، وربطها بالعالم عبر واحدة من أنجح شركات الطيران التجاري.
- الغياب العربي
يترك الغياب العربي عن إثيوبيا علامات استفهام كثيرة عن أسبابه، ومساحات كبيرة تتسرب من خلالها دول لها إستراتيجيات طويلة المدى مثل الصين وإسرائيل وإيران، كما تتضاعف الاستثمارات في شتى المجالات على رغم كل التعقيدات الحكومية التي لا تزال تمارس أعمالها بالأساليب الإدارية العتيقة نفسها التي خلفها النظام الاشتراكي الدموي تحت حكم منغستو مريام إلى حين هروبه الى زيمبابوي بعد سقوط العاصمة في أيدي المعارضين في مايو عام 1991.
وستظل جذوة الحلم الإثيوبي مشتعلة في الحصول على واجهة بحرية تنهي عزلتها الجغرافية، وليس مفهوماً حتى الآن كيف ستتطور الأوضاع، وكيف ستتعامل الدول المطلة حقاً على المحيط والبحر الأحمر مع هذا الطموح المفهوم اقتصادياً وسياسياً، ولكنه حتماً يشير إلى رغبة جامحة في وضع البلاد في مركز القوة البحرية والبرية، إذ تلعب أديس أبابا دوراً أفريقياً نشطاً عبر وجود منظمة الاتحاد الأفريقي عندها، وكذلك وجودها الفعال في عضوية الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، وقد صادف وجودي هناك انعقاد لقاء موسع لقوى سودانية في محاول للتوصل إلى رؤى مشتركة لوقف النزف في بلادهم، وقد قلت مازحاً لبعض المشاركين السودانيين أنهم استعجلوا في أن يلحقوا ببلادهم دماراً وأحقاداً في أقل من عامين، وهي فترة أقل بكثير مما احتاجه اليمنيون إلى تدمير بلادهم وتفتيتها.
ولا تخف الحكومة الإثيوبية حماستها للعب دور إقليمي محوري في منطقة شديدة الاضطراب ومليئة بالألغام العرقية والجغرافية، وفي سبيل ذلك تسلك مسارات متوازية عدة، فهي تركز على تنمية البنية التحتية من دون الدخول في مشاريع ترفيه لا تستفيد منها إلا طبقة صغيرة قادرة، وكذلك عبر إظهار قدراتها السياسية والعسكرية، وقد تمكنت بالصبر والحيلة من الانتهاء من بناء سد النهضة على رغم المعارضة من دول المصب، لأنها ترى أنه يمثل عصب التطور الاقتصادي والاجتماعي في بلد لا تغطي الكهرباء معظم أراضيه.
"اندبيندت عربية"