تحت سفح الجبل، وجمال شارع مدرم الأنيس، وأضواء المدينة المبهجة، تسلب المعلا الحِس، وتسرُّ القلب، وتجبر الخاطر.
وقفتُ ذات صباح على الشاطئ المحاذي للإنزال السمكي"، كانت اللحظة مهيبة، عندما أخبرني القبطان المثابر راشد محمد سعيد الشعبي مدير الدوكيارد الذي يشبه خلية النحل في نشاطه وتبكيره إلى مقر عمله، قال لي:
يا قومنا.. مهما عظمت المؤامرة فإن في الأُفق تلوح بشائر أمل وإنّ الفرج يقترب:
وكُلُّ الحادثاتِ وإنْ تناهتْ
فموصولٌ بها فرجٌ قريـــبُ.
هنا ريح عدن يعبق مع رشاش الموج الواصل إلى الشاطئ، نِسْمَة برائحة الجنوب، وصباحات ساحرة، كانت إلى قريب أشعة شموسها تشرق على منشآت الدولة الفتية، وأشرعة السُّفُن الراسية طَرَف البحر.
هنا الرصيف الذي يحتوي البضائع القادمة من البحر، هنا المخازن التي تحفظ الأشياء، فلا يجوع في ظلها الناس ولا يفقرون ولا يعرون.
قرأتُ عن صراع محتدم بين مصر وأثيوبيا على بلد اسمه " الصومال" ومنافسة اقتصادية على أشُدّها، ثم تذكّرت كيف استطاعت مدينة وادعة اسمها "المعلّا" تكسب قلوب الصومال، فيهيمون في عشقها، وأنجزوا مع هذا الحُب تجارة رابحة محقّقة، عقب خروج الإنجليز من عدن.
"انظُر إلى هذه القوارب الراسية.. هذه قَدِمَت صباحًا من سواحل الصومال، يركب عليها صيادون حضارم"..
نحن في الجنوب لدينا من الأواصر القديمة، ما يشي بعبقرية الدولة الفتية في نسج علائق دبلوماسية ماتزال محفورة في الوجدان والوعي الجمعي لسكّان المدينة، فهذه القوارب، ورحلات الصيد، تذكِّرنا بـ"صومالي بورا"، يوم استوطن إخواننا الصومال مدينة المعلا، واحترفوا حينها قيادة الزوارق والاصطياد.
الآن في زمن الحرب يُذْكَر عن أهلنا من الصومال والحبشة، أنهم حين يغادرون إلى الشمال، إما أن يُذهَبَ بهم إلى مزارع القات للقطاف في رداع، أو يُزجُّ بهم في الجبهات، فلا حِسْ لجِيرة ولا لنبض لذكرى قديمة.
لكن المعلّا فيما مضى صاغت علاقة، جعلت خلالها أهلنا من الصومال يأتون بتجارتهم من الكباش واللبان والأصباغ إلى عدن، فكان في المدينة "دكّة الكباش" وكان فيها "حافون" وهو اسم ميناء في الصومال.
يا سلطات عدن، نريد إحياء روح المعالم هذه، وتجديد العهد مع الجنوب المنشود، لا نُريد خُطبًا أو تغنّي بالماضي فحسب، انزلوا الميدان وامسحوا الغبار عن منشآت الجنوب في البريقة، والمعلا، والتواهي، فلن تنقذنا خارطة طريق قادمة من الشرق أو الغرب، ولا خطة سلام تمر عبر واشنطن وطهران، مالم نعيد الاعتبار لمنشآتنا الاقتصادية الكبرى، ونشحذ الهِمَم لبناء الدولة، ونعيد صياغة علاقاتنا مع الإقليم والعالم بما لا يتعارض مع مصلحتنا في بناء دولتنا المنشودة، التي أُشيع في زمنها العدل والرخاء والحرية والمساواة، وسيادة النظام والقانون، واحذروا الثقافة الوافدة التي حاول نظام صنعاء تكريسها خلال ثلاثة عقود، فاشغل الناس بالسِباق لجمع "الزَّلَط" وتحصيل المصالح الشخصية، بينما كان أهل الجنوب يملكون كنز "القناعة" في زمن دولتهم العادلة، وتغيب اليوم عن أذهان الكثير منهم مصلحة الوطن والشعب.
وكُلُّ الحادثاتِ وإنْ تناهتْ
فموصولٌ بها فرجٌ قريـــبُ.