> عبدالقادر باراس:

تعد كتابة المذكرات والسير الذاتية والتراجم ملمحًا من ملامح كتابة الأدب والتاريخ وتوثيق لمرحلة من مراحل حياة الأشخاص وما ترافقهم من أحداث سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فإن الذاكرة في هذا الكتاب الذي بين يديكم متضمنًا التعريف بـ "قصة حياة وتاريخ وطن" دونه السفير قاسم عسكر جبران الليثي الحالمي، تحوي مذكرات ومحطات تخص مسيرته العملية والأحداث الوطنية التي مر بها.

السفير قاسم عسكر جبران
السفير قاسم عسكر جبران

الكتاب الموسوم بـ "قصة حياة وتاريخ وطن" اكتسب أهميته بكونه، مذكرات وأحداث ووقائع عاشها الكاتب منذ طفولته والتحاقه في الثورة، حتى 2023م، ووثقها توثيقًا تاريخيًّا متنقلًا بين سنين العمر ورحلات السفر الحلوة والمرة.

لخص الكاتب في توثيق مذكراته لاعتقاده الشخصي لأهميتها مستعرضًا مراحل تجربته النضالية ابتداءً من ولادته ونشأته وتطور مراحله العلمية والعملية ودوره الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي في مجريات الأحداث والتطورات التي عاشها في فترة حياته، ونقل مجمل محطاتها بطريقة سردية تاريخية، لتكون جزءًا من التاريخ، ولتعريف الأجيال الحاضرة والقادمة بتاريخ بلدهم وإسهام آبائهم وأجدادهم في حماية هذا الوطن والدفاع عنه بكل المراحل النضالية.

ولهذا، سعى الكاتب لإشراكنا في قراءة مذكراته ومحطاته التي تخص مسيرته العملية وكذلك الأحداث الوطنية التي مرت بها ثورة 14 أكتوبر 1963م في جنوب اليمن، على الرغم من اعتذاره لما وجده من صعوبات ومعوقات أثناء جمع المعلومات ومنها فقدان بعض الوثائق التي كان يحتفظ بها وكثرة الأحداث وتداخلاتها وضيق الوقت.

أشار د. أحمد صالح علوي الوطحي، في تقديمه للكتاب بأن "قراءة مذكرات كاتبه تكشف لنا من أول وهلة عن حياته بأنه مناضلًا ودارسًا أكاديميًا ومقاتلًا وقائدًا عسكريًّا في جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ودبلوماسيًّا عاصر تجارب عديدة، وهذا الكتاب ليست لسيرته الذاتية، بل لتاريخ عظيم لمناضل جنوبي صقلته الثورة الجنوبية التي كان هو ورفاقه صانعيها وبانيها، وكتابه لا ينحصر في انه تسجيل لمذكراته وإنما سرد فيه تاريخ وذكريات ومحطات سياسية وعسكرية ودبلوماسية واجتماعية وثقافية، صورت تاريخ ثورة الجنوب، وتاريخ مراحل تشكّل دولة الجنوب، ودور رجال الثورة الجنوبية الأكتوبرية بصدق وموضوعية.

كما اعتمد في كتابه على منهجية علمية موضوعية رصدت الأحداث والسرديات، لتشكل مادة توثيقية لتاريخ تجربة الجنوب ودور الكاتب في صناعة ذلك التاريخ بمعية رجال وقيادات الجنوب السياسية والعسكرية والدبلوماسية والثورية. يعد كتابه إضافة ثمينة لمكتبة تاريخ جنوبنا الحبيب بما تحويه على معلومات مهمة ومرجع يفيد المؤرخين والباحثين وكل المهتمين بتاريخ الجنوب في أهم مراحل الثورة، ومراحل الدولة الجنوبية، ومسيرة تطور العمل الدبلوماسي لدولة الجنوب في المحافل الإقليمية والدولية".

وتضمن كتابه الذي يقع في 458 صفحة، أبرز محطات تجربته النضالية على مدى نحو نصف قرن، ويحمل بين دفتيه محطات سبع، لتشكل مخزونا معرفيا ومعلوماتيًّا، ليس عن تجربته الشخصية فحسب، وإنما إضافة هامّةً عن هذه الفترة التي يقل توثيقها. فكانت في محطته الأولى "ومضات من سفر البداية أنا وحالمين وثورة 14 أكتوبر للفترة من 1955م – 1967م، يروي فيه مواقف ومحطات منذ البدايات الأولى لانطلاق لثورة 14 أكتوبر، وحياة طفولته في قريته وعمله في الزراعة، ومعاناة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وفي المحطتين الثانية والثالثة يسرد عن رحلته في السلك العسكري وبناء الدولة للفترة من 1968م – 1980م، ورحلاته في السلك الدبلوماسي والسياسي من 1981م – 1994م، وكانت بداية رحلته في السلك العسكري منذ مراحل بناء الدولة الفتية في الجنوب، وعدّد أجزاءها منها تحوله من جيش التحرير إلى الحرس الشعبي، ومن ثم التحاقه بجيش جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ومشاركته في بناء جيش الجنوب وتحديثه وقصة زواجه، وتناوله لأحداث سالمين وقرار إحالته من الخدمة العسكرية. وتحوله من المجال العسكري إلى السلك الدبلوماسي وتمثيله في عدد من البلدان من 1981 حتى 1994م كانت أولها العراق ومواجهته للمهمات الصعبة ورحلة عودته للعمل في الوزارة في عدن، ورحلة أحداث 86م المؤلمة، وتعيينه سفيرًا في الجزائر، وسفيرًا غير مقيم في عدد من الدول الأفريقية، ومن ثم عودته للوطن ومشاركته في مفاوضات مشروع الوحدة.

في الأشهر الأولى من بداية تفكك مشروع الوحدة، ونتائج انتخابات 27 أبريل 1993م وإعلان الحرب على الجنوب، وسقوط الجنوب في يدي الاحتلال اليمني، والرحلة الأخيرة في هذه المحطة كانت رحلة الموت مع أول عما إرهابي كنت أحد ضحاياه.

عرض في محطته الرابعة مراحل تطور المقاومة الوطنية الجنوبية للفترة من 1994م – 2007م ضد الاحتلال اليمني، وفيها عدد من الأجزاء، الجزء الأول البدايات الأولى لاجتماعات السرية للمقاومة الجنوبية، وتشكيل الخلايا والسرايا في محافظات الجنوب المحتل، وتشكيل حركتي موج وتقرير المصير (حتم).

والجزء الثاني رحلة العودة للعمل الدبلوماسي في الخارج، وفيه عدد من الوقفات السياسية والنضالية، والجزء الثالث وقفات من نضالات شعبنا في تأسيس مبدأ التصالح والتسامح والتضامن الوطني الجنوبي. كما تناول المؤلف مآثر أدوار تاريخ صحيفة "الأيام" وأسرة ال باشراحيل، التي شكلت منصة وطنية عظيمة أظهرت علو الإنسان على كل أرض الجنوب العربي منذ تأسيسها في العام 1958م، مثمنًا لمواقفها وصمودها البطولي وخوضها في كل المراحل المختلفة في وجه الغزاة وبالذات ما عانته بعد حرب صيف 1994م من تهديدات وحصار من قبل قوات الأمن لنظام علي عبدالله صالح، لمنزلهما واستخدام قوة السلاح على هذه الأسرة والصحيفة لإسكاتها تحت الحصار لأشهر طويلة.

ويضيف المؤلف شهادته لما لعبته "الأيام" ومنتداها من دور رائد، باعتبار المنتدى كان أول متنفس لحديث جميع القيادات الجنوبية بالبحث عن مستقبل قضية شعب الجنوب، منوها بأن "الأيام" كانت أول صحيفة تنشر عن الاحتلال اليمني للجنوب عندما حمل الشهيد هشام باشراحيل، وأخيه تمام باشراحيل، قضية شعب الجنوب ورفعها عاليا إلى الفضاء العالي وعلى سطح المحيط الإقليمي والدولي، وكانوا نبراسًا لهذه القضية، حاملين مشعلها من أجل انتصار هذه القضية العادلة والمشروعة.

فيما قدم في محطته الخامسة تفاصيل انطلاق الحركة الوطنية الجنوبية للنضال السلمي للفترة من 2007م – 2016م ضد الاحتلال اليمني، وعاصفة الحزم وحرب اليمن والمقاومة الجنوبية وتحرير محافظات الجنوب. كما يروي في مذكراته تفاصيل مراحل اختطافه واعتقاله في 2009م هو ورفاقه من الشخصيات الجنوبية من عدن بعد عقدهم اجتماعات استعدادا لإعلان توحيد المكونات الجنوبية، وترحيلهم من عدن إلى سجن الأمن السياسي بصنعاء ومحاكمتهم.

وفي محطته السادسة سلط الضوء على تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي للفترة من 2017م – 2023م، وسمّاه بـ "الرحلة نحو استمرارية النضال و(استعادة الدولة) بقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، وفيها عدد من الوقفات، وإعلان 4 مايو 2017م (التفويض الشعبي للقائد عيدروس الزبيدي)، وتعييني ممثلًا في لجنة العلاقات الخارجية في الجمعية الوطنية الجنوبية، وتمثيل العلاقات الدبلوماسية لدول القارة الأفريقية، والأزمة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والشرعية، واتفاقيات ومشاورات الرياض وما نتج عنها من تحولات سياسية وعسكرية.

وختم كتابه في محطته السابعة سير عمل منتدى الجنوب لتنمية الوعي السياسي والاجتماعي وأهم أنشطته.

أولى المؤلف اهتمامًا للأحداث والوقائع، التي مر بها في رحلته مع ثورة شعب الجنوب في سبيل الحرية والكرامة والعيش الكريم من أجل "استخلاص الدروس والعبر" وكل ما له صلة وارتباط بتلك الفترة الزمنية من أحداث وتطورات ونجاحات وتحديات وإخفاقات وطرائف وأفراح وأحزان، والحافز الذي جعله على الكتابة هو إصرار زملائه وأصدقائه وإخوانه وأهله وكل من له صله به وفي مقدمتهم د. أحمد صالح علوي، وما دفعه أكثر ليكتب مذكراته حين اعتاد كثير من الناس تزييف التاريخ وتحريف الأحداث.

اعتمد المؤلف في كتابة مذكراته على عدد من الآليات، منها: استدعاء الذاكرة للأحداث الماضية والتطورات التي رافقت مسيرة الحياة، وكذلك رجوعه لبعض الوثائق والمذكرات التي احتفظ بها في مراحل حياته، وتقتضي مذكراته التي تقوم على إعطاء الألوية للقراءة التاريخية وتسلسلها محاولة وصفها وصفا دقيقا معززًا بنماذج من الوقائع التاريخية الكبرى ومحاولة رصد عناصر الأحداث الرئيسية المكونة للسيرة وتجميع العناصر المفككة وتؤلف بين تكويناتها في بناء يستطيع القارئ تبينه واستيعابه وفهم معنى مضمون الكتاب وفحواه.