لطالما شكلت إيران محورًا للجدل السياسي والجغرافي في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمتزج الطموحات القومية مع الأيديولوجيا الدينية في إطار مشروع توسعي طالما أثار قلق جيرانها والمجتمع الدولي. منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" عام 1979 على يد آية الله الخميني، سعت إيران إلى تصدير ثورتها خارج حدودها، متبعة استراتيجيات تراوحت بين القوة الناعمة والدعم العسكري والسياسي المباشر لفصائل وحركات لادولتية مسلحة في المنطقة.

في تاريخ السياسة الإيرانية الحديث، يمكن اعتبار الفترة الممتدة بين قبول الخميني بقرار إنهاء الحرب العراقية الإيرانية في 8 أغسطس 1988، وحتى سقوط نظام الأسد في سوريا في 8 ديسمبر 2024، مرحلة مفصلية جسدت تحولات كبرى في توجهات إيران الإقليمية والدولية، هذه المرحلة، التي استمرت 36 عامًا، شهدت فيها استثمارات هائلة من إيران سواء في الأرواح أو الموارد الاقتصادية، في محاولة لبناء نفوذ إقليمي مستدام دعمت فيها إيران الجماعات الإرهابية واللادولتية "المليشيات" في عدد من البلدان العربية، وأطلقت عليها اسم "محور الممانعة".
  • "كأس سُم" الانكسار في الحرب العراقية الإيرانية
قبول الخميني بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لوقف إطلاق النار مع العراق، الذي وصفه بأنه "تجرع كأس السُم"، كان لحظة انكسار رمزية لمشروع تصدير الثورة المباشر، فقد كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) بالنسبة لإيران حربًا وجودية، لكنها انتهت دون تحقيق مكاسب ملموسة، بل على العكس، خلفت دمارًا اقتصاديًا واجتماعيًا هائلًا، والموافقة على قرار إنهاء الحرب أثار استياء الأوساط الثورية في إيران حينها خاصةً مع سقوط حلم تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار يومها بالحروب المباشرة.
  • سياسة ما بعد الحرب: بناء النفوذ الإقليمي
بعد الحرب، بدأت إيران في إعادة بناء جيشها وحرسها الثوري الذي أصبح قوة عسكرية واقتصادية وسياسية، وقامت بتطوير استراتيجيتها الإقليمية ما جعلها تغزو المنطقة من خلال الوكلاء خصوصا في أوساط الأقليات الشيعية في تلك الدول، مستغلة الأزمات في المنطقة، فبرزت سياسات جديدة تقوم على إنشاء تحالف محور إقليمي يدعم النفوذ الإيراني، عُرف لاحقًا بـ"محور الممانعة"، وضم التحالف نظام آل الأسد في سوريا، حزب الله في لبنان، والفصائل الولائية في العراق والحوثيين في اليمن وحاولت الوصول إلى الصحراء المغربية.

أنفقت إيران عشرات المليارات من الدولارات في تمويل وتسليح تلك الجماعات المسلحة وتوسيع نفوذها في العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، كما كثفت من استخدام الحرس الثوري الإيراني وخاصة فيلق القدس، كأداة لتحقيق أهدافها الإقليمية معتقدة أن ذلك سيمنحها نفوذًا إقليميًا ودوليًا دائما.

لكن "كأس سم انكسار محور الممانعة" كان أسرع مما تصوره أكثر المتفائلين من خصوم ايران بانهيار النفوذ الإيراني، حيث جاء سقوط نظام بشار الأسد في سوريا نهاية هذا العام 2024 نقطة تحول كبرى أخرى، أكثر درامية لإيران بعد هزيمة حزب الله في لبنان و"مريرة" كما وصفه قائد الحرس الثوري حسين سلامي، حيث كانت سوريا حليفًا استراتيجيًا لإيران لعقود منذ قيام نظام خميني بل ودعمه في حربه ضد العراق، ومع بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، استثمرت طهران موارد ضخمة لدعم الأسد، بما في ذلك إرسال قوات ومستشارين عسكريين وتمويل الميليشيات الموالية له.

أن سقوط النظام السوري في نهاية المطاف يعني أن إيران ستواجه ارتدادات هذا السقوط داخليًا وإقليميًا، التي لن تقف عند هذا الحد، بل ستواجه هزات استراتيجية أخرى في العراق واليمن بعد خسارتها الكبيرة في سوريا وحزب الله الذي كان يمثل الحرس الثوري ورأس الحربة في المنطقة للمشروع الإيراني، فتلك النكسات أظهرت حدود القوة الإيرانية وأدت إلى تراجع قدرة إيران على إدارة التحديات الإقليمية التي تواجهها، خاصةً في ظل التوترات المتزايدة وتبادل الضربات العسكرية مع إسرائيل كما أن التهديد بالعزلة الدولية المتزايدة وتزايد احتما فرض عقوبات اقتصادية جديدة، سيكون له أثر موجع وتدميري على اقتصادها.
  • نهاية حقبة من عمر النظام أم نهاية النظام؟
من "كأس السُّم" الذي أجبر الخميني على إنهاء الحرب مع العراق، إلى "كأس سُم انكسار محور الممانعة" الذي يتجرعه الخامنئي اليوم بانهيار النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والضغوط على العراق والحوثيين في اليمن، تعكس هذه الفترة صراعًا مستمرًا بين طموحات إيران الإقليمية والقيود المفروضة عليها، وحدود قوتها، يمكن القول إن هذه الحقبة كانت مليئة بالأحداث الدموية التي رعتها وأدارتها إيران قد أخلت بكثير من التوازنات الوطنية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، لكنها أظهرت أيضًا أن هناك حدودًا لا تستطيع سياسات إيران تخطيها في توازنات الوضع الإقليمي والدولي، وان سياساتها القائمة على التدخلات العسكرية والرهانات على دعم وتمكين الأقليات من الحكم أو السيطرة لخدمتها لن يكتب لها النجاح.

في ظل التحولات الدولية الكبرى، وخاصة التقارب العربي المتزايد مع الغرب وإسرائيل، تجد إيران نفسها أمام مفترق طرق، فإما أن تختار طريق الدولة "الويستفالية"، التي تركز على مصالح شعبها واقتصادها الداخلي، أو تستمر في المسار الأيديولوجي الذي قد يقودها إلى تجرع "كأس السم" مرة أخرى، وربما هذه المرة بنهاية النظام نفسه.

الأسابيع أو الأشهر المقبلة قد تكون حاسمة في تحديد مستقبل إيران، سواء عبر تراجع استراتيجياتها الخارجية أو استمرارها في مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الحلم الإيراني القديم بإحياء الإمبراطورية الفارسية يقترب من لحظة حاسمة، حيث ستواجه طهران خيارات صعبة قد تعيد صياغة موقعها في المنطقة والعالم.