> العميد/ أنور يحيى*:

في أواخر العام 1956 أصدر الصحافي سليم اللوزي (1922-1980) مجلة الحوادث الأسبوعية في لبنان وقد تبنى مطالب ثورة الرئيس صائب سلام والوزير كمال جنبلاط، اللذين سقطا في انتخابات 1957 ضد الرئيس شمعون، وفساد تحالف القضاء والشرطة بقضية القوادة عفاف أواخر عهده، حيث تمت ملاحقته ما استدعى فراره خارج البلد ليعود فور تسلّم الرئيس شهاب الحكم أواخر سبتمبر 1958.

مع دخول قوات حفظ السلام العربية إلى لبنان في خريف 1976 والمشكّلة بنسبة 80 % من الجيش السوري، كانت مجلة الحوادث اللبنانية تنتقد تسلط الضباط السوريين وقمع حرية الرأي المعارض للنظام الأسدي، فكان نسف جريدة المحرّر في حارة حريك، الموالية للبعث العراقي في صيف 1975، دليلًا واضحًا.

تعرضت الحوادث المستقرة في كورنيش المزرعة لبعض التعديات، فنقلها صاحبها إلى عين الرمانة ثم هاجر لاحقًا مع فريق العمل إلى لندن، حيث أصدرها أسبوعيًا من هناك، وكانت التحذيرات الأمنية تصله باستمرار فاستقر مع زوجته أمية وبناته الثلاث، وقد قُتل أخوه مصطفى في طرابلس خريف 1979 ولم يتمكّن من حضور دفنه. توفيت والدته وتلقّى بعض التطمينات من سياسيين، فحضر إلى لبنان يوم 23 فبراير 1980، وفور دفنها توجه يوم 25 منه إلى مطار بيروت عائدًا إلى لندن لكنه لم يصل إليها، بل أفاد سائقه بأنّ مسلحين خطفوه في الطريق واختفى؟

باشرت الأجهزة الأمنية التفتيش عنه، دون نتيجة، لكن أحد رعاة الماعز شاهد جثة رجل في حرش عرمون، وعلى بعد مئتي متر من مواقع للجيش العربي السوري العامل ضمن قوات الردع العربية بتاريخ 4/3/1980. أسرع لإعلام مختار البلدة الذي حضر برفقة دورية من درك قبرشمون ودورية من الأدلة الجنائية في مفرزة بعبدا القضائية وحضر قاضي التحقيق الأستاذ سعيد ميرزا برفقة الطبيب الشرعي وتبيّن أنها جثة المغدور سليم اللوزي مُصابة بطلق ناري وقد ساعدت برودة الطقس في حفظها، ولم يبقَ من كفّ يده اليمنى سوى العظام! نُقلت الجثة إلى برّاد مستشفى الجامعة الأميركية للمتابعة التقنية.

كلّفت عائلة المغدور المحامي نعمة حمية الادعاء الشخصي ومتابعة القضية، لكنه تعرّض لصاروخ أثناء وجوده في منزله، محلة البربير، بعد أيام، أقعده لفترة طويلة.

سرت إشاعات بأنّ يد المغدور اليمنى قد أحرقت بالأسيد ليكون عبرة لمن يتطاول على القيادة السورية. كلّف الرائد إسكندر شلفون، آمر مفرزة بعبدا القضائية، الرقيب الأول عبد الرحمن الفاضل، التقني بتحليل مسرح الجريمة واستخلاص النتائج لتحديد المكان الحقيقي للقتل، شخصية الجناة، وأسباب تآكل لحم اليد اليمنى فقط؟ هل بسبب الأسيد كما يُروّج أم لأسباب أخرى؟

أكّد المختبر المركزي في وزارة الصحة، بعد التحليل الدقيق لعيّنات من عظام اليد اليمنى للمغدور، ألّا أثر للأسيد أبدًا. تساءل القاضي عن سبب عدم فقدان اللحم عن الوجه والكف الآخر؟

بنتيجة الاستعلام والتقصّي لدورية التحري والاستماع إلى المختار وراعي الماعز عن وضعية الجثة عند مشاهدتها أوّلًا، تبين أنّها كانت مُلقاة على وجهها واليد اليسرى تحتها وأن القسم المكشوف خارج المعطف السميك كان الكف الأيمن فقط، وقد أدار الراعي الجثة لتستقرّ على ظهرها، علّه يتعرّف إلى صاحبها، وعندما لم يُوفق أسرع إلى منزل المختار الذي انتظر حضور دورية الدرك ورافقهم إلى مكان الجثة وباشروا الإجراءات التحقيقية وحضر القاضي والطبيب الشرعي والرائد شلفون، رئيس التحرّي للتحقيق سوية.

استعان الرقيب الأول فاضل بكاميرا متطورة لديهم لتصوير وتكبير الأدلة في مسرح جريمة المغدور الذي تمّ قتله برصاصة مسدس في صدغه، ثمّ نُقل إلى حرش عرمون البعيد عن العمران في حينها، وأمضى وقتًا طويلًا يراقب بدقّة محيط مكان الجثة، فتبيّن له وجود بعض قطع اللحم الصغيرة قرب ثقوب للجرذان وقد تطابقت بالتحليل والمقارنة مع لحم المغدور وفقًا لنتيجة المختبر المركزي... فتكون الحيوانات أكلت الكفّ الأيمن المكشوف!

لم يتوصّل التحقيق الجنائي في حينها إلى تحديد هوية الجناة بدقّة وتوقيفهم، إنّما كان ضمن مسلسل نشر الرعب والخوف عند من لا يرتدع عن انتقاد قمع الحريات وتسلّط بعض كبار الضباط العاملين ضمن قوات الردع العربية التي دخلت بقرار عربي لدعم الرئيس إلياس سركيس.

تبِع اغتيال الصحافي الحر سليم اللوزي، اغتيال نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه في بيروت بتاريخ 22/7/1980 لرفعه الصوت ضدّ تسلّط المخابرات.

إن انتقال مكاتب مجلة الحوادث من بيروت إلى لندن، لم يمنع اغتيال صاحبها المناضل سليم اللوزي الذي أصرّ على حضور جنازة والدته في لبنان وكلّفه ذلك حياته.

كان لتعاون محقّقي الشرطة القضائية، أصحاب الخبرة والشجاعة، مع الطبّ الشرعي وتحاليل المختبر المركزي، بإشراف القاضي، النتائج الحاسمة لكشف خفايا اغتيال الصحافي سليم اللوزي، لكنّ ظلّ الجناة خارج قبضة العدالة لظروف تتخطّى قدرة الدولة اللبنانية في حينه، لكن، هل يُعلن قائد الانتفاضة المنتصرة في سوريا مسؤولية النظام السوري عن قتل سليم اللوزي ورياض طه كما أعلن مسؤولية النظام عن اغتيال كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري؟

*قائد الشرطة القضائيّة سابقًا

"النهار"