والله جل وعلا علم أن الأمة ستمر بمراحل ضعف، والمهدي لا يخرج عن كونه رجلاً صالحاً، قال العلامة الألباني رحمة الله تعالى -ونعم ما قال- يغلب على الظن أنه رجل فريد في علمه، فريد في أخلاقه، فريد في تجربته في الحياة، فريد في قيادته، وأن الله جل وعلا يصلح الأمة قبله؛ لأنه لا يعقل أن رجلاً يحيي الأمة من جديد في سبع سنين دون أن يكون كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بناها في ثلاث وعشرين سنة، فهو - قطعاً - ليس أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أفضل من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا سائر الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكنه رجل يختم به الله الناس قبل خروج الدجال وقبل نزول عيسى ابن مريم، فالقول بأن المهدي شخص منقطع النظير يمنع الأمة من العمل، ويدفعها إلى التواكل، فتنتظر أن يخرج المهدي حتى يقودها.

فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً؛ لأن الناس لا يمشون إلا بقائد، فمهما صفت الأمة وتربت من دون قائد فإنها لا يمكن أن تسير، فهو يأتي والأمة أحوج ما تكون إلى قائد، فيكون قائداً لها فيحكم رضي الله عنه سبع سنين.
  • نزول عيسى عليه السلام لقتل الدجال
ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء واضعاً يديه على أجنحة ملك إذا طأطأ رأسه يظهر لرائيه كأنه يتحدر منه ماء الوضوء، يقول عليه الصلاة والسلام: (كأنه خارج لتوه من ديماس) والديماس: الحمام، وهو ليس بخارج لتوه من ديماس (فإذا رآه عدو الله -أي: الدجال- ذاب كما يذوب الملح في الماء)، إلا أن عيسى يتبعه بحربة تكون معه فيقتله حتى يطمئن الناس من أن الدجال قد مات؛ لأن مكوثه في الأرض أربعين يوماً أثر في الخلق وفي قناعات في الناس، فإذا قتل ولصق دمه بالحربة تزول كل تلك القناعات، ولو جاء عيسى وقال: إنني قتلته قد لا يقع في قلوب الناس بعض التصديق، وهذه سنة لله ماضية في خلقه، فالله جل وعلا لما أهلك فرعون نجاه ببدنه حتى يرى الناس عياناً أن فرعون الذي كانوا يزعمون من قبل أنه إله ميت هالك، قال تعالى: ((فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)) فلو أن البحر ابتلعه لقال الناس: مفقود، وقد ذهب وسوف يعود، أو استعان بالملائكة، فتجول حوله الأساطير، ولكن الله جل وعلا أخرجه بجسده ونجاه حتى يكون لمن خلفه آية، وحتى يقتنع الناس بأن فرعون قد مات، ونفس السنة تجري على الدجال، فيرى الناس دمه في حربة عيسى فيطمئنوا بأنه قد قتل.
  • ذكر ما يقع عند قصد الدجال المدينة المنورة
جاء في الأحاديث الصحيحة أنه عندما يقصد المدينة -ولا يدخلها- ترجف، وليس هناك أحاديث صحيحة في أنه يخرج منها سبعون ألف منافق، ولكن قال صلى الله عليه وسلم: (فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج منها كل كافر ومنافق) ولم يحدد عدداً، وقد حاول بعض الناس أن يصف الذين سيخرجون من المدينة، وهذا غير صحيح، فعلى الإنسان ألا يركب طريقاً ليس له، فنحن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (ترجف فيخرج منها كل كافر ومنافق) ونعوذ بالله من الكفر والنفاق والشقاق، ونسأل الله الحياة على التوحيد والموت عليه، وأما غير ذلك فلا نصف أقواماً فنقول: قد يكونون من بني فلان أومن بني فلان، فهذا كله تجرأ وتقدم بين يدي الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

ونقول: ليحذر المؤمن من أن يظهر للناس ما لا يبطن، وليستعذ من الكفر والنفاق خوفاً من أن يقع في المحذور، فهذا الذي على المؤمن أن يصنعه، والغيب لا يعرف بعقل ولا بتجربة، وإنما يعرف بالخبر الصحيح الصريح عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا مجمل ما أفاء الله علينا وبيناه في قضية خبر الدجال، سائلين الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
  • ذكر من يقف في وجه الدجال
وكنا قد بينا في قضية الدجال أنه يقتل على يد عيسى ابن مريم، ولكن لا يعني ذلك أن الدجال لا يقاوم؛ فإنه يخرج له شاب فيزداد الشاب بـ الدجال كفراً رغم ما يريه الدجال من الآيات، ثم إن الدجال في خاتمة المطاف يقتله، قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).

وممن يحارب ويقاوم الدجال بنو تميم القبيلة المعروفة، وما تزال أسرهم موجودة في نجد وما حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرهم قال: (هم أشد أمتي على الدجال، هم أشد أمتي على الدجال)، وهذا موضع ثناء منه صلوات الله وسلامه عليه على أهل تلك القبيلة.

إلى هنا انتهينا، وانتهينا في الدرس الماضي إلى نزول رسول الله عيسى بن مريم واضعاً يديه على أجنحة ملك، وقلنا: إنه يقتل الدجال بحربة تكون في يده.
  • عيسى عليه السلام وعمله بشريعة رسول الله
وسينزل عيسى ابن مريم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (سينزل عيسى بن مريم شرقي المنارة البيضاء شرقي دمشق)، وقال: (فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع كأن فيه بللاً فيه قطر وإن لم يتوضأ).

وبعد أن ينتهي الدجال يحكم عيسى بالقرآن لا بالإنجيل؛ لأن الله قال في كتابه: ((وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ))، أي: على كل كتاب قبله، فيكسر الصليب الذي هو شعار النصرانية المحرفة، والصليب لم يعرف إلا بعد ثلاثة قرون من قتل عيسى، فيكسر الصليب الذي هو رمز النصرانية المحرفة، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، ولا يعد هذا الفعل من عيسى نسخاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه السلام أخبر بأن عيسى سيصنع هذا.

فالجزية موجودة في ديننا، ولكن عيسى إنما يعمل بالإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب حتى ينزل عيسى، فالذي قال: إن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب حتى ينزل عيسى هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فليس صنيع عيسى بناسخ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن شريعته عليه السلام آخر الشرائع وناسخة ما قبلها.
  • بيان ظاهر الأحاديث فيما يستوطنه عيسى عليه السلام
إن ظاهر الأحاديث يدل على أن عيسى عليه السلام يستوطن الحجاز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما)، وفج الروحاء باق إلى اليوم قبل المسيجيد، وذهابه إليه حاجاً أو معتمراً غالب الظن أن يكون الخروج فيه من المدينة، فيكون الإحرام من ميقات المدينة؛ لأنه لو أراد أن يحج أو يعتمر عليه السلام إلى البيت العتيق من بلد غير المدينة فلن يمر بفج الروحاء.

فعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما)، أي: يجمع بينهما، والمقصود أن هذا يدل عليه استقراء الأمر في الحجاز.