هي الأم، تحفظك في حناياها، تحملك على كتفيها فتتصور أنك أكبر منها، هو مكر التاريخ، وعبث الطفولة، ولعنة الزمن، لا يوجد في الحياة أكبر من الأم، كتب شكسبير قبل رحيله التالي: "لا يوجد في العالم وسادة أنعم من حضن الأم، ولا وردة أجمل من ثغرها".
فكما رضعنا ماء الحنان من ثدييها، وشربنا دفء القلب من ضوء عينيها، ومن فوح عطرها توضأنا لنقيم صلاة للحب، صلاة لها، ولندرك معها ومن خلالها معنى الحياة، ذلك ما جعلنا أحياء ونحب الحياة، فهي أمي، سدرة منتهى الكلام.
فلكل منا سرديته الذاتية في علاقته بالحياة/ الأم، وكل منا يعتقد في سريرته أن أمه أفضل وأجمل الأمهات.. مختصر وخلاصة الحياة فيها، وفي اسمها يكتنز معنى الوجود، فكل شيء يدل عليها ويقود إليها، حتى وهي متربعة على عرش الخلود في ذروة الأبدية.
الله ما أجملك يا أمي. هل كان من الضروري الرحيل لنعرف قيمتك؟ كل الذكريات من الطفولة حتى الختام متوحد باسمك، بمعناك، بمعنى وجودك، ومع كل شريط ذكرى أراك مقيمة في نرجس الخاطر، معلنة حضورك، فتكونين أنت، أنت، أمي، طهارة المعنى، ونبع الخلود.
فأن تكوني أماً/ أمي، يعني شيئاً واحداً، إن تكوني كل شيء، وأن أكون أنا.. نعم يا أمي لا خيار أمامك سوى أن تكونين أنت، شجرة ميلادنا وخلاصنا، أفق بعثنا الدائم.
لم تمت أمي، إنها نائمة، هكذا قالها السيد المسيح الناصري حين ماتت صبية.
شوقي إليك بلا حدود، وفاجعتي برحيلك مستمر، وكأنها اللحظة والآن، فالآن الذي كان يجدد نفسه داخلي صباح كل يوم.
كنت صباحات أيامي، ومبتدأ عمري، فكنت أنا.. هي أمي عين قلبي التي بها أرى نفسي، هي دمعي الذي أرسم به شمس فرحي، لون تعبي.
ثلاثة يقيمون في مهج الروح أمي أب، الله (الخالق الأعظم) لكل منهم سجادة صلاة، وفي كل حين أجد نفسي أعتمر، وأحج إليهم/ إليك، إلى داخل نفسي أسافر لأراكم/ لأراك.
سيدة الحب أمي أميرة العشق الخالد أنت، فعلى صدرها كنت أرتمي، أخبئ أسراري عن عيون نفسي الخطاءة، وتحفظني من تلصص العسس، تمسكني عن قول ما لا يلزم من القول.
تغيب، فيغيب معها كل الألق والبهاء الذي يطوق أيامنا بالجمال، والحنان. هي آية الرحمة، وسورة الغفران، لم يدخل سؤال التبرم إلى محياها ولم يلامس شفتيها الكلام المراوغ، فكأنها مسكونة بالرحمة، ومجبولة بآيات الغفران، هي غفران يتسع لفضاء المكان، دون حدود.
هذه هي أمي كما عرفتها وكما دربتنا على الحب، وهي بعد الرحيل أكثر حضوراً وألقاً وبهاءً، ورحمة، طيفها يلاحقني ورحمتها تسبقني، وعطاؤها يودعني لا ينساني وكأنها ظل الله في الأرض.
كلهم عادوا من سفرهم من رحلة وداعهم لأمي حيث تقيم في المكان الأثير، المكان الأخير، وبقيت هناك مقيماً في انتظار صحوها من نوم غادر غافلها، وهي مستلقية على راحة الانتظار للذي قد لا يأتي.. فأتى، تقدم نحوها خلسه منا، ليأخذها إلى حيث يشاء، وحيث لا تريد.. إنه الموت غداراً يختار أجملنا، أطهرنا ليقربه إليه، فنبكي عليه حتى آخر الدمع، منتهى الوجع.
هل تقبلين اعتذاري المتأخر يا أمي؟
أحمل أولادي وزوجتي إلى حيث هي، لنستعيدها للبيت الذي أثثت أشياءه، ورسمت بعيون فرحها تفاصيله، البيت الذي لم تغادره حتى تعود إليه، أحد أهم أركانه هي، فلا يزال قلبها النور يضيء جنبات المكان. تلكم هي أمي.
ما تزال تحملني، وتحمل عني ما تنوء به وعنه العصور، هي هكذا لا تقول، فقط تستمر بفعل القدوم.
حتى اليوم لا تزال نساء القرية، وكل المدن، أو من عرفنها، ومن بقين منهن -من النساء- يتذكرونها، فطيفها يحلق في المكان ويمتد في الزمان، هي ابنة الله في كل شيء، هي أمي، كوني وكينونتي.
شكلتني، من كلمة هندسة بداياتي وما تزال، على أنني أزعم انني القادر الوحيد على تتبع سفر أيامها كما عشتها معها، لأني سر وجعها، من بداية المهد، حتى سدرة اللانهاية.
من أرث الصوفية أتت، ولا تزال صورة جدي تشدني إلى ذلك البعيد القريب، ألق صوفي وجدته في هديل صوتها، ومن الشجن الطالع من دفء روحها، ومن بهاء طلتها.
كل شيء يشدني إليك، ويوصلني إلى لون الورد في عينيك.. إن من لا يقوده الشوق إلى أمه في كل حين، لا يحبه الله، ولا يعرف الله، ولا يعرفه الله، فالأم أسمى وأقدس تجليات الله في الأرض.
الله ما أجمل صوتك الذي كنت اقرأ به نصوص الرحمة في القرآن دون تحوير ولا تأويل بالتكفير، وذلك ما ساعدني على البقاء كما أنا، كما أريد، محبا للناس دون تمييز.
نوارة الروح، سراج القلب أمي، هي لم تمت، فقط غادرتنا لتستريح من عناء التعب/ متاعبي، التي حملتها معي وعني، فقاسمتني كل الوجع الذي كان، وما زالت.
أتذكرها وهي تتوسل الجند "العكفة" لفتح بوابة السجن لتقيم فيه بعض من الوقت، هي تدرك أننا في كل ذلك نقترب من حافة الهلاك، ولكنه شجن وقلق الحب الأمومي، يرى ما لا نرى، يرى الأشياء بعيون الله المحب، والكبير، صاحب الأسماء الحسنى، ولذلك لم تر من السجن سوى ما تريده عيون القلب.
سلام الله عليك يا سيدة القلب، سلام الله على السلام الذي في عينيك، وعلى العطر الذي يطيب روحك وعلى الحناء في يديك، وعلى النور المشع من ضياء صمتك، صلاة الله وسلامه على ضحكتك الوادعة وهي تضفي على المكان ألوان قوس قزح، وإيقاعات سمفونية هادئة من أناشيد سلام الروح، سلام الله على جلساتك المتوجة بهمس الكلام الشفيف، وبريق ابتسامتك الوادعة.
هل يموت الصبح، أم يتوارى برهة ؟ تلكم هي أمي، احتجبت عنا، كمهدي منتظر، ولم تمت
وما تزال تذكرنا بمعنى وجودها الازلي فينا/ في الحياة.
هي الوجه الآخر للحياة، بل والأكثر إشراقاً وبهاء، هي صورة الحياة في الأرض، صورة الله في سماء القلب، هي محسوسة ملموسة ثابتة في العقل، مزروعة في الوجدان، الحياة معنى مجازي لاسمها.. نحن هندسنا معنى مفردة الحياة وركبنا صفاتها كما يحلو لنا، وهي من النطفة/الكلمة، شكلتنا، ادخلتنا للحياة، وهنا فضيلة تميز المعنى المقدس للأم عن المعنى المجرد والفلسفي للحياة.
أمي اسمي وصورتي ومعنى وجودي رسمتني على صورة حبها وقلقها وخوفها وشجنها، ومن هنا امتدادها فينا، ومن هنا كذلك حاجتنا للعودة إليها في كل حين.. هي الجنة على الأرض وتحت أقدامها تكون.
لم أنس وصاياها لي بأن حبها يبدأ من حب من حولنا وبأن حبها موصول بألف صلة حبل سري يقودنا إليها، وإلى حب الناس، هي مدرسة مفتوحة على حب لا ينتهي.
الله ما أجملك يا أمي، يا سدرة منتهي عشقي، منك المبتدأ وإليك الخبر.
عصاتي كانت أهش بها عسس الليل، وزوادتي في نهارات الجوع، خبزها لا يزال طريا في فمي، ورائحة رغيف فمها في دمي، كل شيء بعدك فقدان، لم يختارك الله إلى جواره عفواً، هو خالقنا يعلم قبلا -في اللوح المحفوظ- أين تكون مواطن الطيبين في الأرض، هي لم تمت، ذهبت للنوم، غادرت لتستريح من طول السهر.. سهر امتد قرابة ثمانين عاماً من الأرق والتعب، فحق لها النوم ما شاءت، هي تعرف من ينتظرها وبيدها وحدها تحديد متى تعود.. لست صورة فوق جدار سريري يا أمي، وقريبة من رأس قلبي، فأنت طيف الروح في دمي، طيف يحييني، ولا يبارحني.
طيبة أمي، كما يرى كل الأطفال والشيوخ والكهول أمهاتهم، كلامها شفيف، وقولها خفيف الظل، قريبة للصمت كانت، بعيونها تحكي، فعيونها من أجمل ما خلق الله، أيقونة فرح كانت، ومن كانت، كما كانت، لا تنسى ولا تموت. هذا ما تقوله من عرفنها من صديقاتها، قبل أن يذهبن إليها، وبعد لقائهن بها في ملكوت الله حيث تقيم.
عودت نفسي أن أذهب لزيارتها صحبه الأولاد والزوجة، أناديها، وأحاول تنشيط ذاكرتها حول بعض ما كان مني.. فلا تتذكر سوى كلمات هاجعة في قلبها، لا تتذكر، سوى صورة الابن المطيع، والحنون، مع أني كنت شاغلها، وسبباً في الكثير من تعبها، وعللها، من كثر مشاغباتي الطفولية، ومتاعبي الكثيرة التي انتقلت إليها دون قصد مني.. كانت تسبقني إلى السجن في كل مرة أزوره، وتخفف عني وطأة القهر، وتحمل عني كل التعب، حتى وجدتها تتكلم بصوتي، تحكي بلغتي في بعض ما يخصني. أليست ابنة الله وأمي؟.. لا شيء يعوضني عن فقدانها، لا شيء يعزيني في فقدها سوى أنني لم أفقدها، أفتقدها كثيراً، نعم، ولكني لم أفقدها، أنا بعض امتدادها في الكلام.
الله كم أشتاق إليك، سلام الله عليك يا أمي حيث أنت، ولا مناص من الاعتذار إليك ولو متأخرا، هي رسالة حب واعتذار.
فكما رضعنا ماء الحنان من ثدييها، وشربنا دفء القلب من ضوء عينيها، ومن فوح عطرها توضأنا لنقيم صلاة للحب، صلاة لها، ولندرك معها ومن خلالها معنى الحياة، ذلك ما جعلنا أحياء ونحب الحياة، فهي أمي، سدرة منتهى الكلام.
فلكل منا سرديته الذاتية في علاقته بالحياة/ الأم، وكل منا يعتقد في سريرته أن أمه أفضل وأجمل الأمهات.. مختصر وخلاصة الحياة فيها، وفي اسمها يكتنز معنى الوجود، فكل شيء يدل عليها ويقود إليها، حتى وهي متربعة على عرش الخلود في ذروة الأبدية.
الله ما أجملك يا أمي. هل كان من الضروري الرحيل لنعرف قيمتك؟ كل الذكريات من الطفولة حتى الختام متوحد باسمك، بمعناك، بمعنى وجودك، ومع كل شريط ذكرى أراك مقيمة في نرجس الخاطر، معلنة حضورك، فتكونين أنت، أنت، أمي، طهارة المعنى، ونبع الخلود.
فأن تكوني أماً/ أمي، يعني شيئاً واحداً، إن تكوني كل شيء، وأن أكون أنا.. نعم يا أمي لا خيار أمامك سوى أن تكونين أنت، شجرة ميلادنا وخلاصنا، أفق بعثنا الدائم.
لم تمت أمي، إنها نائمة، هكذا قالها السيد المسيح الناصري حين ماتت صبية.
شوقي إليك بلا حدود، وفاجعتي برحيلك مستمر، وكأنها اللحظة والآن، فالآن الذي كان يجدد نفسه داخلي صباح كل يوم.
كنت صباحات أيامي، ومبتدأ عمري، فكنت أنا.. هي أمي عين قلبي التي بها أرى نفسي، هي دمعي الذي أرسم به شمس فرحي، لون تعبي.
ثلاثة يقيمون في مهج الروح أمي أب، الله (الخالق الأعظم) لكل منهم سجادة صلاة، وفي كل حين أجد نفسي أعتمر، وأحج إليهم/ إليك، إلى داخل نفسي أسافر لأراكم/ لأراك.
سيدة الحب أمي أميرة العشق الخالد أنت، فعلى صدرها كنت أرتمي، أخبئ أسراري عن عيون نفسي الخطاءة، وتحفظني من تلصص العسس، تمسكني عن قول ما لا يلزم من القول.
تغيب، فيغيب معها كل الألق والبهاء الذي يطوق أيامنا بالجمال، والحنان. هي آية الرحمة، وسورة الغفران، لم يدخل سؤال التبرم إلى محياها ولم يلامس شفتيها الكلام المراوغ، فكأنها مسكونة بالرحمة، ومجبولة بآيات الغفران، هي غفران يتسع لفضاء المكان، دون حدود.
هذه هي أمي كما عرفتها وكما دربتنا على الحب، وهي بعد الرحيل أكثر حضوراً وألقاً وبهاءً، ورحمة، طيفها يلاحقني ورحمتها تسبقني، وعطاؤها يودعني لا ينساني وكأنها ظل الله في الأرض.
كلهم عادوا من سفرهم من رحلة وداعهم لأمي حيث تقيم في المكان الأثير، المكان الأخير، وبقيت هناك مقيماً في انتظار صحوها من نوم غادر غافلها، وهي مستلقية على راحة الانتظار للذي قد لا يأتي.. فأتى، تقدم نحوها خلسه منا، ليأخذها إلى حيث يشاء، وحيث لا تريد.. إنه الموت غداراً يختار أجملنا، أطهرنا ليقربه إليه، فنبكي عليه حتى آخر الدمع، منتهى الوجع.
هل تقبلين اعتذاري المتأخر يا أمي؟
أحمل أولادي وزوجتي إلى حيث هي، لنستعيدها للبيت الذي أثثت أشياءه، ورسمت بعيون فرحها تفاصيله، البيت الذي لم تغادره حتى تعود إليه، أحد أهم أركانه هي، فلا يزال قلبها النور يضيء جنبات المكان. تلكم هي أمي.
ما تزال تحملني، وتحمل عني ما تنوء به وعنه العصور، هي هكذا لا تقول، فقط تستمر بفعل القدوم.
حتى اليوم لا تزال نساء القرية، وكل المدن، أو من عرفنها، ومن بقين منهن -من النساء- يتذكرونها، فطيفها يحلق في المكان ويمتد في الزمان، هي ابنة الله في كل شيء، هي أمي، كوني وكينونتي.
شكلتني، من كلمة هندسة بداياتي وما تزال، على أنني أزعم انني القادر الوحيد على تتبع سفر أيامها كما عشتها معها، لأني سر وجعها، من بداية المهد، حتى سدرة اللانهاية.
من أرث الصوفية أتت، ولا تزال صورة جدي تشدني إلى ذلك البعيد القريب، ألق صوفي وجدته في هديل صوتها، ومن الشجن الطالع من دفء روحها، ومن بهاء طلتها.
كل شيء يشدني إليك، ويوصلني إلى لون الورد في عينيك.. إن من لا يقوده الشوق إلى أمه في كل حين، لا يحبه الله، ولا يعرف الله، ولا يعرفه الله، فالأم أسمى وأقدس تجليات الله في الأرض.
الله ما أجمل صوتك الذي كنت اقرأ به نصوص الرحمة في القرآن دون تحوير ولا تأويل بالتكفير، وذلك ما ساعدني على البقاء كما أنا، كما أريد، محبا للناس دون تمييز.
نوارة الروح، سراج القلب أمي، هي لم تمت، فقط غادرتنا لتستريح من عناء التعب/ متاعبي، التي حملتها معي وعني، فقاسمتني كل الوجع الذي كان، وما زالت.
أتذكرها وهي تتوسل الجند "العكفة" لفتح بوابة السجن لتقيم فيه بعض من الوقت، هي تدرك أننا في كل ذلك نقترب من حافة الهلاك، ولكنه شجن وقلق الحب الأمومي، يرى ما لا نرى، يرى الأشياء بعيون الله المحب، والكبير، صاحب الأسماء الحسنى، ولذلك لم تر من السجن سوى ما تريده عيون القلب.
سلام الله عليك يا سيدة القلب، سلام الله على السلام الذي في عينيك، وعلى العطر الذي يطيب روحك وعلى الحناء في يديك، وعلى النور المشع من ضياء صمتك، صلاة الله وسلامه على ضحكتك الوادعة وهي تضفي على المكان ألوان قوس قزح، وإيقاعات سمفونية هادئة من أناشيد سلام الروح، سلام الله على جلساتك المتوجة بهمس الكلام الشفيف، وبريق ابتسامتك الوادعة.
هل يموت الصبح، أم يتوارى برهة ؟ تلكم هي أمي، احتجبت عنا، كمهدي منتظر، ولم تمت
وما تزال تذكرنا بمعنى وجودها الازلي فينا/ في الحياة.
هي الوجه الآخر للحياة، بل والأكثر إشراقاً وبهاء، هي صورة الحياة في الأرض، صورة الله في سماء القلب، هي محسوسة ملموسة ثابتة في العقل، مزروعة في الوجدان، الحياة معنى مجازي لاسمها.. نحن هندسنا معنى مفردة الحياة وركبنا صفاتها كما يحلو لنا، وهي من النطفة/الكلمة، شكلتنا، ادخلتنا للحياة، وهنا فضيلة تميز المعنى المقدس للأم عن المعنى المجرد والفلسفي للحياة.
أمي اسمي وصورتي ومعنى وجودي رسمتني على صورة حبها وقلقها وخوفها وشجنها، ومن هنا امتدادها فينا، ومن هنا كذلك حاجتنا للعودة إليها في كل حين.. هي الجنة على الأرض وتحت أقدامها تكون.
لم أنس وصاياها لي بأن حبها يبدأ من حب من حولنا وبأن حبها موصول بألف صلة حبل سري يقودنا إليها، وإلى حب الناس، هي مدرسة مفتوحة على حب لا ينتهي.
الله ما أجملك يا أمي، يا سدرة منتهي عشقي، منك المبتدأ وإليك الخبر.
عصاتي كانت أهش بها عسس الليل، وزوادتي في نهارات الجوع، خبزها لا يزال طريا في فمي، ورائحة رغيف فمها في دمي، كل شيء بعدك فقدان، لم يختارك الله إلى جواره عفواً، هو خالقنا يعلم قبلا -في اللوح المحفوظ- أين تكون مواطن الطيبين في الأرض، هي لم تمت، ذهبت للنوم، غادرت لتستريح من طول السهر.. سهر امتد قرابة ثمانين عاماً من الأرق والتعب، فحق لها النوم ما شاءت، هي تعرف من ينتظرها وبيدها وحدها تحديد متى تعود.. لست صورة فوق جدار سريري يا أمي، وقريبة من رأس قلبي، فأنت طيف الروح في دمي، طيف يحييني، ولا يبارحني.
طيبة أمي، كما يرى كل الأطفال والشيوخ والكهول أمهاتهم، كلامها شفيف، وقولها خفيف الظل، قريبة للصمت كانت، بعيونها تحكي، فعيونها من أجمل ما خلق الله، أيقونة فرح كانت، ومن كانت، كما كانت، لا تنسى ولا تموت. هذا ما تقوله من عرفنها من صديقاتها، قبل أن يذهبن إليها، وبعد لقائهن بها في ملكوت الله حيث تقيم.
عودت نفسي أن أذهب لزيارتها صحبه الأولاد والزوجة، أناديها، وأحاول تنشيط ذاكرتها حول بعض ما كان مني.. فلا تتذكر سوى كلمات هاجعة في قلبها، لا تتذكر، سوى صورة الابن المطيع، والحنون، مع أني كنت شاغلها، وسبباً في الكثير من تعبها، وعللها، من كثر مشاغباتي الطفولية، ومتاعبي الكثيرة التي انتقلت إليها دون قصد مني.. كانت تسبقني إلى السجن في كل مرة أزوره، وتخفف عني وطأة القهر، وتحمل عني كل التعب، حتى وجدتها تتكلم بصوتي، تحكي بلغتي في بعض ما يخصني. أليست ابنة الله وأمي؟.. لا شيء يعوضني عن فقدانها، لا شيء يعزيني في فقدها سوى أنني لم أفقدها، أفتقدها كثيراً، نعم، ولكني لم أفقدها، أنا بعض امتدادها في الكلام.
الله كم أشتاق إليك، سلام الله عليك يا أمي حيث أنت، ولا مناص من الاعتذار إليك ولو متأخرا، هي رسالة حب واعتذار.