في بلدٍ تتنفس أرضه عبق الحضارات، وتخفي جباله كتبًا لم تُقرأ بعد، لم يكن التنوّع يومًا عبئًا على اليمن، بل كنزًا. فمن حضارة سبأ إلى حِمير، ومن لهجات الجنوب إلى أزياء الشمال، ومن ترانيم الجبال إلى أناشيد السواحل.. كان التعدد الثقافي في اليمن نغمةً فريدة في سمفونية الوجود، ولم تكن القبائل تُعرّف نفسها بحدودٍ فاصلة، بل كانت تشترك في تقاليد الكرم، في حكايات الجدات، وفي احترام الكبير، وفي قِدسية الضيف، وفي شهامة مساندة الضعيف، وتوقير المرأة وفي الحُب المتوارث للقهوة، والبيت، والقصيدة.

لقد كانت الأسواق ملتقى اللهجات، وكانت الأعراس مهرجانًا للتنوّع، وكانت الأبواب مفتوحة لكل من يطرقها بلغة القلب، لكننا اليوم، ونحن نقف على مفترق الطرق، لا بد أن نسأل أنفسنا بصدق:

ما الذي حدث؟

كيف تحوّل هذا التعدد الذي كان زينة اليمن، إلى فجوة بين أبنائه؟

كيف أصبحت الثقافات المتجاورة جدرانًا عالية بدل أن تكون جسورًا ممتدة؟

هل نسينا أن الاختلاف في التعبير لا يعني الخلاف في القلب؟

في اليمن اليوم ما زال التعايش الثقافي ممكنًا، والانفتاح نحو المجتمع هو الطريق الوحيد للترقي والتطور، فبقايا الروح الطيبة ما زالت حيّة.

ترى ذلك في الفلكلور، في الزخرفة على الأبواب، في تنوع الأغاني، في اختلاف الآراء ووجهات النظر، في الكلمات التي تنتقل من لهجة إلى أخرى دون أن تشعر بالغربة، فلكل منطقة في اليمن لون، ونكهة، ودفء وما أجمل اليمن حين تتقبّل ألوانها جميعًا، كقماشٍ مطرّز بخيوط ذهبية متعددة، لا يُمكن أن تُبهر العين بلونٍ واحد فقط. ولأن الثقافة ليست سلاحًا بل رسالة، وليست سُلطة بل هوية، وليست جدارًا بل مرآة.

فلا بد أن نعود إلى جوهرنا، ونوقظ فينا ذاكرة القلب ولنجعل التعايش والتسامح زادنا في هذه الرحلة، ولنرَ في اختلافنا تنوعاً، لا تهديداً، وفي لغاتنا المتعددة صوتاً واحداً للروح، من قلبٍ يُحب اليمن، ويؤمن أن التعايش ليس حلمًا، بل نورًا ينتظر أن يُحيا من جديد.

ودمتم في كنف الله سالمين ومؤيدين.