مع بدء المفاوضات بين أمريكا وإيران في مسقط هذا الأسبوع تبرز فرضية تخلي إيران عن أيديولوجيتها الثورية لصالح نموذج ويستفالي، والذي يقوم على أسس السيادة الوطنية والبراغماتية والمصالح الاقتصادية للدولة. هذا التحول لا يعد مجرد تغيير سطحي، بل يحمل معه تساؤلات عميقة حول إعادة تشكيل الديناميات الإقليمية في الشرق الأوسط. كيف يمكن لإيران أن تعيد تعريف دورها الإقليمي في ظل هذا السياق المتغير؟ وما هي ردود أفعال القوى الإقليمية والدولية تجاه إيران الجديدة التي تركز على الداخل؟

كان للنموذج الثوري الإيراني الذي نشأ بعد الثورة الإسلامية عام 1979 تأثير كبير على الهوية السياسية للبلاد، إذ جمع بين الأيديولوجيا المذهبية والمصالح الوطنية، مما جعل إيران لاعباً إقليمياً مثيراً للجدل عبر دعمها لوكلاء مثل حزب الله والحوثيين والفصائل الشيعية في العراق. ولكن الانتقال إلى نموذج ويستفالي (الدولة) يعني إعادة نظر جذري في هذه الهوية. سيكون على إيران أن تركز على تعزيز اقتصادها الوطني واستقرارها الداخلي، مما يتطلب تحولًا في استراتيجياتها الدبلوماسية. يتطلب هذا التحول تقليص نفوذ المؤسسات الأيديولوجية مثل الحرس الثوري، وربما إعادة هيكلة النظام السياسي بما يتماشى مع هذا التوجه الجديد.

هذا النوع من التغيير لا يمكن تحقيقه بسهولة. فإعادة هيكلة النظام السياسي تتطلب وقتًا وجهودًا هائلة، حيث من المتوقع أن تواجه إيران مقاومة شديدة من القوى التقليدية داخل النظام. فالحرس الثوري، الذي يمتلك نفوذًا كبيرًا، لن يتقبل بسهولة أي تقليص لدوره، وقد يؤدي أي محاولة لإجراء إصلاحات جذرية إلى صراعات داخلية قد تزعزع استقرار الحكومة.

في حال نجحت إيران في هذا التحول، ستظهر أمامها إمكانيات جديدة تلعب من خلالها أدوارًا إقليمية متعددة. أولاً، يمكن أن تصبح مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا في المنطقة، مستفيدة من احتياطياتها الضخمة من النفط والغاز وموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط الخليج بآسيا الوسطى. إذا تمكنت إيران من رفع العقوبات المفروضة عليها، فإنها قد تصبح مركزًا لتجارة الطاقة والبنية التحتية، مما سيجذب استثمارات ضخمة في هذا القطاع.

ثانيًا، يمكن لإيران أن تلعب دور الوسيط الإقليمي، مستفيدة من تاريخها الغني وعلاقاتها المتنوعة. يمكن لإيران أن تجمع بين النفوذ الثقافي والاقتصادي لتشكيل أجندة إقليمية جديدة. بإلغاء دعم الميليشيات، ستتقلص الصراعات في المنطقة، مما سيمكن إيران من المساهمة في إعادة الإعمار في العراق واستقرار.

رغم هذه الإمكانيات، تواجه إيران تحديات هيكلية كبيرة قد تعيق تحولها إلى نموذج ويستفالي، فاقتصادها يعاني من عقود من العقوبات ومن تراجع قيمة الريال، مما أدى إلى تضخم مزمن. لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، تحتاج إيران إلى تدفقات رأسمالية واستقرار سياسي، وهو ما قد يستغرق عقودًا لتحقيقه. حتى على المستوى الدولي، قد تواجه إيران مقاومة من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، التي ستسعى إلى فرض شروط صارمة قبل قبولها كدولة براغماتية.

إضافة إلى ذلك، ستظل انعدام الثقة حاضرة في العلاقات الإقليمية حتى لو تخلت إيران عن أيديولوجيتها الثورية. الدول المجاورة قد ترى في إيران تهديدًا وجوديًا، وهذا يمكن أن يعقد جهود التعاون الإقليمي.

إذا نجحت إيران في الانتقال إلى نموذج ويستفالي، فإنها ستعيد تشكيل التوازن الإقليمي. من خلال تقليل الاستقطاب، قد تؤدي إلى تعاون أفضل بين دول المنطقة، مما يمكن أن يفتح آفاق جديدة للأمن الجماعي.

هذا التعاون من شأنه أن يقلل من نفوذ الوكلاء الإقليميين مثل حزب الله والفصائل الولائية والحوثيين، مما يسهم في تعزيز الاستقرار في المنطقة.

إيران كدولة وليست كثورة، يمكنها أن تصبح قوة اقتصادية ودبلوماسية محورية. ولكن هذا التحول يتطلب تجاوز العوائق الداخلية والخارجية الكبيرة.

إن تعاون الشرق الأوسط مع إيران أقل أيديولوجية يمكن أن يعزز الاستقرار ويقلل من الصراعات، إلا أن الطريق نحو هذا التغيير محفوف بالتحديات. إن الدور المحتمل لإيران كعامل استقرار إقليمي يعتمد بشكل كبير على قدرتها على إعادة تعريف هويتها دون المساس بجوهرها، وهو تحدٍ معقد، ولكنه قد يشكل مستقبل المنطقة لعقود قادمة.