منذ العام 1990، حينما فُرضت الوحدة اليمنية على شعب الجنوب دون أخذ رأيه في مستقبله، ثم تُوّجت بالغزو العسكري في 94، وفرضت صنعاء نظامها بالقوة على الجنوب، بدأت سلسلة من الأحداث المؤلمة التي لم تكن مجرد مصادفات، بل كانت نتاجاً لسياسات منهجية من قبل النظام اليمني. لقد استخدم الاحتلال اليمني كل الوسائل لتفكيك الجنوب، إذ لم يترك مجالاً إلاّ عبث به، من الهوية الثقافية والاجتماعية إلى الاقتصاد والكرامة الإنسانية.

منذ اللحظة الأولى، وظف النظام اليمني إعلامه لتشويه الحقائق، وسعى إلى تصوير الغزو البربري للجنوب في 1994 وكأنه "فتح مكة" الذي شارك فيه آلاف الإرهابيين من الأفغان العرب وقبائل الفيد اليمنية، في حين أن الحقيقة ظهرت تماماً بوضوح، إذ كان غزواً همجياً هدفه السيطرة على الموارد، وتفكيك النسيج الاجتماعي، ومحاولة طمس الهوية الجنوبية الحضارية التي طالما كانت رمزاً للتمدن في المنطقة.

لم يكن الاحتلال اليمني مجرد احتلال عسكري، بل كان احتلالاً شاملاً طال كل نواحي الحياة، حيث أُلقي بمئات الآلاف من الموظفين الجنوبيين في الشوارع، بعد أن تم تسريحهم قسراً من وظائفهم، بعد أن دُمرت المصانع والمعامل، وسُلمت الأراضي والممتلكات العامة إلى حفنة من النافذين اليمنيين وأتباع النظام. تحولت عدن وحضرموت وشبوة وأبين ولحج إلى ساحات للنهب والاستغلال، حيث استُبيحت مقدرات الجنوب لمصلحة قلة قليلة من المستفيدين.

لم يكتفِ النظام بإفقار الجنوب، بل أمعن في إذلال مواطنيه، فتعرض ضباط جيش الجنوب وقادته للإهانة والتهميش، وتم التعامل مع إرث الجنوب الحضاري وكأنه عار يجب التخلص منه. وجاء تعيين شيوخ قبليين على مدن مثل عدن وفي حضرموت، التي كانت منارات للعلم والثقافة تعبيراً عن جاهلية حديثة، لقد كان ذلك جزءاً من خُطَّة واضحة لتحويل الجنوب إلى قرية كبيرة، تخضع لنظام القبيلة الجاهلي الذي فرضه النظام اليمني.

في ظل تلك الجرائم، كان موقف الشعب اليمني محيراً. لم نسمع من مثقفيهم أو سياسييهم كلمة استنكار أو اعتراض على ما يحدث للجنوب. بل على العكس، كان هناك استقواء واضح، حيث تحول حتى الباعة والبساطين إلى أدوات ضغط على الجنوبيين، مستفيدين من غطاء أمني وعسكري قدمته قوات الأمن المركزي والجيش.

عندما اندلعت الاحتجاجات الجنوبية في إطار الحراك السلمي، كان الرد قاسياً. قتل النظام وجيشه خيرة شباب الجنوب، بينما وقف الشعب اليمني بين مؤيد للنظام أو صامت. لم نسمع أصواتاً تطالب بوقف القتل أو تدعو إلى العدالة، بل رأينا كثيرين يحتفلون بما يحدث وكأنه انتصار جديد.

فشهد الجنوب سلسلة من المجازر التي لا يمكن نسيانها. من الضالع إلى عدن وأبين وشبوة وحضرموت، طالت يد النظام كل بيت جنوبي. حتى الأطفال لم يسلموا من القتل، كما حدث في مجازر الضالع الذي نفذها ضباط مثل ضبعان، الذي كان مجرماً في تعز ولكنه أصبح بطلاً في الجنوب بالنسبة لنظام صنعاء.

ومن المآسي التي لا يمكن نسيانها، كيف أن بائعي الخضار والبساطين من اليمن تحولوا فجأة إلى قناصة محترفين خلال الغزو الثاني في 2015، يوجهون أسلحتهم إلى صدور أبناء الجنوب الذين يعتاشون على حسابهم. كيف يمكن نسيان تلك العنجهية والاستقواء التي مارسها اليمنيون في كل تفاصيل الحياة اليومية، من السيطرة على المحال التجارية بالقوة إلى استباحة المنازل والأراضي؟

اليوم، وبعد عقود من القهر والظلم، يقف الجنوب أمام مَفرِقِ طرق. لقد تعلم الجنوبيون من تلك التجارب المريرة أن الوحدة القسرية لم تكن سوى غطاء لنهب ثرواتهم وسلب كرامتهم.

إن الدفاع عن الأرض والهوية أصبح مهمة جماعية، تتطلب استدعاء كل تلك الذكريات الأليمة لتكون درساً للأجيال القادمة.

قد يتهمنا البعض بالعنصرية تجاه اليمنيين، ولكن الحقيقة أن ما واجهناه من عنصرية منهجية على مدى عقود كان سبباً في تمسكنا بحق الدفاع عن أنفسنا. لن نقبل بعد اليوم أن نعيش كمهزومين أو مهانين على أرضنا.

إلى كل جنوبي، تذكروا تلك السنوات بكل تفاصيلها، وانقلوا تلك الذكريات إلى أبنائكم. لا تسمحوا لتلك الجرائم أن تُنسى أو تُمحى من الذاكرة. إن استعادة الجنوب ليست مجرد معركة سياسية، بل هي معركة لاستعادة الكرامة والهوية.

لقد أثبت الجنوب أنه قادر على الثَّبات والتحدي. ولن يكون المستقبل إلا صفحة جديدة يكتبها أبناء هذا الشعب العظيم بأيديهم، بعيداً عن أي هيمنة أو وصاية.

الجنوب اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى استعادة حقوقه. فليكن شعارنا: لن ننسى… ولن نسامح.