الدول لا تنهار تدريجيًا كجرفٍ يتآكل ببطء، بل تسقط فجأة—حين يسحب الناس موافقتهم. هذه هي الحقيقة الصادمة التي طرحها منذ ما يقارب الخمسة قرون الفيلسوف الفرنسي إتيان دو لا بويسي في كتابه “مقالة في الطاعة الطوعية”. كانت أطروحته حينها ثورية، لكنها اليوم أكثر واقعية وإلحاحًا: الطغيان لا يستمر بالقوة وحدها، بل بتعاون ضحاياه الصامت.
رأى لا بويسي الدولة ككيان غير طبيعي، لا تقوم على شرعية أو تفويض، بل على وهم تُغذّيه الطاعة الجماعية. كتب: “ليس للطاغية من قوة إلا تلك التي تمنحونها له بأيديكم… فالعين التي يراقبكم بها، أنتم من وهبتموها له. واليد التي يضربكم بها، أنتم من أعطيتموها إياه. والقدم التي تدوس مدنكم، هي في الأصل قدمكم أنتم.” هذه الرؤية الصادمة تعكس معادلة مقلوبة: أقلية تحكم أكثرية، ليس لأن لديها سلطة حقيقية، بل لأن الأغلبية رضيت أن تطيع.
فكيف إذًا يستمر هذا الكيان؟
الإجابة لدى لا بويسي تكمن في الاستسلام النفسي والفكري. فالناس لا يُستعبدون بالقوة بقدر ما يُخدَّرون بعوامل أربعة: الخوف، والدعاية، والعادة، والوهم. وهنا تنشأ فئة مجتمعية خطرة: المواطن المستقر.
المواطن المستقر لا يدافع عن الاستبداد، لكنه لا يرفضه أيضًا. يعيش في فقاعة صغيرة من الاهتمامات اليومية، تنحصر في ثلاثة أركان:
1 . لقمة العيش
2 . كرة القدم
3 . الدين
لقمة العيش تمتص كامل جهده وتفكيره، فينشغل بتأمين قوت يومه لأطفاله، ولا يرى في الحقوق السياسية إلا ترفًا لا طائل منه.
أما كرة القدم، فهي المهرب والملجأ. يجد فيها عدالةً غائبة عن حياته، وانضباطًا يفتقده في مؤسسات الدولة. في 90 دقيقة، يشعر أن هناك نظامًا وقواعد تُطبَّق على الجميع، دون واسطة أو محسوبية.
أما الدين، فقد تحوّل إلى مجموعة من الطقوس الشكلية، لا تتصل بالحق أو العدل. فقد ترى من يكذب، ويرتشي، ويظلم دون خجل، لكنه يشعر بالذنب فقط إن فاتته الصلاة. يدافع عن دينه فقط إذا كان ذلك لا يكلّفه شيئًا ولا يعرضه لخطر.
هذا المواطن هو العقبة الكبرى أمام التغيير. ليس لأنه طاغية، بل لأنه جامد. ليس شريرًا، لكنه عاجز عن الغضب. وكما يقول لا بويسي، فإن كل ما يحتاجه الطغيان للاستمرار هو استمرار هؤلاء في الصمت والانقياد.
لم يكن لا بويسي ليتصور أن هناك شعوبًا بأكملها ستتحوّل إلى جماعات من "العبيد المستقرين" يجلسون في المقاهي بينما بلدانهم تحترق، لا يُحرّكهم قهر ولا تُوقظهم فاجعة. لكنه أدرك الحقيقة الجوهرية: الطغيان لا يعيش دون تعاون الجماهير.
"قرروا أن لا تخدموا بعد الآن، وستتحررون في الحال".
بهذه العبارة المدهشة، يلخّص لا بويسي استراتيجيته للتحرر. لا يدعو إلى عنف أو انتقام، بل إلى الانسحاب الهادئ من اللعبة. فكما يسقط التمثال الضخم إذا انهار قاعدته، يسقط الطاغية عندما تنسحب منه موافقة الجماهير.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي أمام دعاة الحرية: ليس في مواجهة السلطة، بل في إيقاظ الوعي الشعبي. القضية ليست سلاحًا يُرفع، بل وعيًا يُستعاد. ليست شجاعة الصدام، بل شجاعة الرفض.
إن صوت لا بويسي، الممتد عبر القرون، ما زال ينادي: لا للطغيان، لا للصمت، لا للطاعة غير المفحوصة.
ففي هذا الرفض، يبدأ الانهيار - ليس للمدنية، بل للعبودية.
رأى لا بويسي الدولة ككيان غير طبيعي، لا تقوم على شرعية أو تفويض، بل على وهم تُغذّيه الطاعة الجماعية. كتب: “ليس للطاغية من قوة إلا تلك التي تمنحونها له بأيديكم… فالعين التي يراقبكم بها، أنتم من وهبتموها له. واليد التي يضربكم بها، أنتم من أعطيتموها إياه. والقدم التي تدوس مدنكم، هي في الأصل قدمكم أنتم.” هذه الرؤية الصادمة تعكس معادلة مقلوبة: أقلية تحكم أكثرية، ليس لأن لديها سلطة حقيقية، بل لأن الأغلبية رضيت أن تطيع.
فكيف إذًا يستمر هذا الكيان؟
الإجابة لدى لا بويسي تكمن في الاستسلام النفسي والفكري. فالناس لا يُستعبدون بالقوة بقدر ما يُخدَّرون بعوامل أربعة: الخوف، والدعاية، والعادة، والوهم. وهنا تنشأ فئة مجتمعية خطرة: المواطن المستقر.
المواطن المستقر لا يدافع عن الاستبداد، لكنه لا يرفضه أيضًا. يعيش في فقاعة صغيرة من الاهتمامات اليومية، تنحصر في ثلاثة أركان:
1 . لقمة العيش
2 . كرة القدم
3 . الدين
لقمة العيش تمتص كامل جهده وتفكيره، فينشغل بتأمين قوت يومه لأطفاله، ولا يرى في الحقوق السياسية إلا ترفًا لا طائل منه.
أما كرة القدم، فهي المهرب والملجأ. يجد فيها عدالةً غائبة عن حياته، وانضباطًا يفتقده في مؤسسات الدولة. في 90 دقيقة، يشعر أن هناك نظامًا وقواعد تُطبَّق على الجميع، دون واسطة أو محسوبية.
أما الدين، فقد تحوّل إلى مجموعة من الطقوس الشكلية، لا تتصل بالحق أو العدل. فقد ترى من يكذب، ويرتشي، ويظلم دون خجل، لكنه يشعر بالذنب فقط إن فاتته الصلاة. يدافع عن دينه فقط إذا كان ذلك لا يكلّفه شيئًا ولا يعرضه لخطر.
هذا المواطن هو العقبة الكبرى أمام التغيير. ليس لأنه طاغية، بل لأنه جامد. ليس شريرًا، لكنه عاجز عن الغضب. وكما يقول لا بويسي، فإن كل ما يحتاجه الطغيان للاستمرار هو استمرار هؤلاء في الصمت والانقياد.
لم يكن لا بويسي ليتصور أن هناك شعوبًا بأكملها ستتحوّل إلى جماعات من "العبيد المستقرين" يجلسون في المقاهي بينما بلدانهم تحترق، لا يُحرّكهم قهر ولا تُوقظهم فاجعة. لكنه أدرك الحقيقة الجوهرية: الطغيان لا يعيش دون تعاون الجماهير.
"قرروا أن لا تخدموا بعد الآن، وستتحررون في الحال".
بهذه العبارة المدهشة، يلخّص لا بويسي استراتيجيته للتحرر. لا يدعو إلى عنف أو انتقام، بل إلى الانسحاب الهادئ من اللعبة. فكما يسقط التمثال الضخم إذا انهار قاعدته، يسقط الطاغية عندما تنسحب منه موافقة الجماهير.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي أمام دعاة الحرية: ليس في مواجهة السلطة، بل في إيقاظ الوعي الشعبي. القضية ليست سلاحًا يُرفع، بل وعيًا يُستعاد. ليست شجاعة الصدام، بل شجاعة الرفض.
إن صوت لا بويسي، الممتد عبر القرون، ما زال ينادي: لا للطغيان، لا للصمت، لا للطاعة غير المفحوصة.
ففي هذا الرفض، يبدأ الانهيار - ليس للمدنية، بل للعبودية.