في مفصلٍ تاريخيٍ كهذا الذي نعيشه اليوم، لا يملك الجنوب ترف الانتظار، ولا رفاهية السير على غير هدى. فالأوطان لا تُبنى بالنيات الطيبة وحدها، بل تُشيّد بإرادة واعية، وعقلٍ سياسيٍ راجح، ورؤيةٍ مرحليةٍ متكاملة تُدرك طبيعة الصراع، وتستبق تحولات المشهد قبل أن تُفرض كأمرٍ واقع.

أي عملٍ سياسي، مالم يُبنَ على وضوحٍ في الأهداف وصرامةٍ في تحديد الأولويات، سيظل رهين الارتجال وردّات الفعل، حتى وإن حُشدت له الجماهير وتغنّت به الشعارات. وها نحن أمام واقع تتزاحم فيه المشاريع السياسية في المنطقة، بعضها مُعلَن وأكثرها يُدار في الخفاء، مشاريع قد لا تنسجم بالضرورة مع تطلعات شعب الجنوب، و قد لا تُبقي له مكاناً في معادلات ما بعد التسوية القادمة.

ولأننا نعلم أن السياسة لا تنتظر المتأخرين، وأن المترددين لا يكتبون التاريخ، فإن الواجب يفرض علينا اليوم أن نعيد النظر في أدائنا، وأن نُخضع مشروعنا الجنوبي لمراجعة جادة وعاجلة، لا تقف عند حدود الرومانسية الثورية، بل تنفذ إلى عمق أدوات الفعل ومراكز القرار، وإعادة ترتيب الأولويات وفق معادلة الداخل والإقليم والمتغيرات الدولية.

وفي هذا السياق، فإن المسؤولية التاريخية تقع في المقام الأول على عاتق المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه الحامل السياسي للقضية، والفاعل الأبرز على الساحة الجنوبية. مسؤولية تتطلب منه قيادة لحظة تقييم صريح، يحدد من خلالها ما أنجز، وما ينبغي إنجازه، وما يجب تفاديه. كما تتطلب منه الانتقال من مربع رد الفعل إلى هندسة الفعل، ومن منطق الدفاع إلى منطق المبادرة.

فأخطر ما يمكن أن يواجه أي مشروع وطني تحرري ليس الخصوم، بل التخبط في المراحل، والارتباك في التعاطي مع التحولات، والتعويل على حلفاء قد "تتبدل بوصلاتهم" في لحظة حسابات مصالح لا ترحم الضعفاء.

لقد حان الوقت لأن نُعلي صوت العقل، وأن نحمي ما تم بناؤه بوعيٍ استراتيجي لا يسمح للمفاجآت أن تهدمه، ولا للأوهام أن تجرنا إلى مربعات العجز والتبعية.

فمن لم يقرأ حركة التاريخ جيدًا، لن يكون إلا كحاطب ليل.