رمت إدارة بايدن بسؤال و«لغز أبي الهول»: ما بعد اليوم التالي؟ للإيهام بأن نتائج حرب الـ7 من أكتوبر محسومة، وأن الإجابة عن سؤال ما بعد الحرب هي الأهم.
تلقفت إسرائيل السؤال الملغوم بطرح عودة الاستيطان من قِبل اليمين التوراتي، والعلماني الصهيونيين، ومعروف أن الخلاف بين اليمين واليسار الصهيوني إزاء فلسطين تكتيكي.
ففي حين يريد اليمين التهجير القسري لكل ما هو فلسطيني، ومد الاستيطان من البحر إلى النهر، فإن اليسار يتبنّى الرؤية ذاتها، بل هو أبوها كمؤسس لها، ولكنه يقبل بوجود شكلي (روابط قرى)، أو أتباع في غزة، أو بوجود ما يسميهم «عرب إسرائيل».
السؤال المقذوف في جحيم حرب الإبادة، والقتل الجماعي، والتدمير الشامل، هدفه صرف الأنظار عما يجري على أرض غزة، وعن عجز وفشل جيش إسرائيل «كلي القدرة»، والمشتركة معه القوة الأمريكية، والمزود بالإف 16، والقنابل الذكية، والصواريخ الأكثر تطورًا وحداثة وقوة تدمير، والتأييد الأوروبي الاستعماري، في حرب الإبادة.
بفضل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الصابر والعنيد، والمقاومة الباسلة، تكشفت طبيعة الحرب، واستحال الانتصار، وظهر زيف السؤال المكيدة الذي ارتد كمكر التاريخ إلى قلب إسرائيل، وتفجر كلغم كبير في قيادة الحرب الإسرائيلية بين الديني والعلماني، وبين السياسي والعسكري، وفي الشارع الإسرائيلي.
ما بعد اليوم التالي مطروح الآن بقوة في إسرائيل، وتتولد منه وعنه عشرات الأسئلة: ما الأسباب الحقيقية للحرب؟ وهل بدأت يوم الـ7 من أكتوبر؟ والتساؤل عن الأسرى، وقتل الجيش للأسرى؟ وعن قتلى الجيش، وأعدادهم الحقيقية؟ وعن أسباب الفشل في مواجهة شعب أعزل لا يتجاوز المليونين ونصف في رقعة ضيقة ومحاصرة، وقيادة خبيئة في الأنفاق تحت الأرض؟
السؤال الكبير: كيف أن جيشًا عصريًا حديثًا ومدججًا بأحدث ما أنتجته المكنة العسكرية الأقوى عالميًا، جيشًا أريد له أن يكون أقوى من كل جيوش المنطقة مجتمعة؛ مؤزرًا بالقوة الأمريكية المشتركة معه في الحرب، وباستطلاعات الطائرات، والأقمار الصناعية الأمريكية والبريطانية، وحضور ناقلتي الطائرات الأمريكية، وبوارج وغواصات أمريكية وأوروبية فيما يشبه حربًا كونية ثالثة؛ حربًا مختلة التوازن بالمطلق، يفشل ويكون فشله من أغرب عجائب الحروب.
الأسئلة التي تقذفها جرائم الحرب غير المسبوقة هي المشتعلة الآن داخل كيان كل أمجاده الحرب والانتصار، وللانتصار آباء كُثُر، أما الهزيمة فلا حسب ولا نسب لها. نتن ياهو النبي الكاذب، الذي يقدم نفسه كآلهة حرب بَشّرَ شعبه بتغيير خارطة الشرق الأوسط، وبدولة يهودية من البحر إلى النهر تقود المنطقة كلها، وتحول العرب كلهم إلى عرب إسرائيل، يهزمه شعب محاصر وجائع، قتلاه أكثر من ثلاثين ألفًا، وجرحاه بالآلاف، والمشردون غالبية السكان، وقيادته مختبئة في الأنفاق.
بضعة آلاف محاصرون ومخذولون من أشقائهم العرب، سلاحهم الوحيد إرادتهم الوطنية. أن تهزم فيتنام أمريكا فمفهوم؛ لأن خلفية فيتام الاتحاد السوفيتي، والصين الشعبية، وأن تهزم فرنسا في الجزائر مفهوم أيضًا؛ فقد كانت مصر، وحركات التحرر الوطني في حينها، ودول عدم الانحياز، والمعسكر الاشتراكي، وأفريقيا مساندة لها، وأن تهزم بريطانيا في جنوب اليمن فليس بمستغرب؛ فقد كانت الحرب مسنودة بالشمال اليمني، ومصر الثورة، والمجتمع الدولي.
صحيح أن الاحتجاجات داخل إسرائيل، والعديد من بلدان العالم، وبالأخص في أمريكا وأوروبا هي السند للصمود الفلسطيني.
الحرب على غزة تزري وتتفوق على كل حروب العصر التي عرفها العالم، فعلى مدى ثلاثة أشهر يقتل كل يوم العشرات والمئات، وتُدمَّر مدن وقرى وأحياء بكاملها، وتُستأصل كل معالم الحياة، ويُمنع الغداء والماء والدواء والوقود عن رقعة جغرافية صغيرة يسكنها أكبر عدد من السكان محاصرين لمدة ستة عشر عامًا.
الاحتجاجات المتصاعدة داخل إسرائيل، والانقسامات داخل قيادة الحرب، وداخل حزب الليكود، معطى من معطيات صبر وعناد الشعب الفلسطيني في غزة، وبسالة المقاومة الوطنية. صبر وتضحيات الفلسطيني على مدى ثلاثة أرباع القرن تجلت وتجسدت في إفشال حرب الإبادة، والقتل الجماعي.
وقد بدأت علائم رفض الحرب من قِبل بعض الإسرائيليين، وبدأ فقدان الثقة بالأحزاب، والتيارات الصهيونية: اليمينية، واليسارية.
الاحتجاجات المطالبة باستقالة نتن ياهو وحكومة الحرب، والمطالبة بالتسريع بعودة الأسرى، والتفاوض مع الفلسطينيين مؤشرات مهمة للمطالب الحقيقية لما بعد اليوم التالي، وربما قبل اليوم التالي.
يقصد الأمريكان باليوم التالي استكمال إسرائيل تدمير المدن والأحياء والقرى وإفناء كل مقومات الحياة وتتميم القتل الجماعي والتطهير العرقي ودفع ما تبقى من مواطني غزة إلى الشريط الحدودي مع مصر ودفع مواطني الضفة إلى الوطن البديل الأردن حسب المخطط الصهيوني يبدأ اليوم بالمساومة مع دول الجوار؛ لاستقبال ما تبقى من الناجين من الإبادة، أو إفساح السبيل أمامهم للمرور إلى بلدان أخرى.
وما يعيق هذا اليوم هو صبر وتضحيات وعناد الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية الباسلة التي قهرت الجيش الإسرائيلي، وأفشلت مخططات أمريكا وأوروبا، وأصدقاءهم في المنطقة. اليوم التالي الأمريكي المعاق في فلسطين هو ما يصنع اليوم التالي، وربما قبل اليوم التالي في الداخل الإسرائيلي؛ وهو ما تفرضه عوامل ومؤشرات عديدة.
فشل اقتلاع شعب فلسطين، والإخفاق في قهر المقاومة، وتصاعد الاحتجاجات المطالبة بعودة الأسرى، ووقف الحرب، وإسقاط نتن ياهو، والانقسامات داخل معسكر الحرب، والانقسام داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي المشارك في الحرب، والمظاهرات داخل العديد من بلدان العالم، وبالأخص في أمريكا وأوروبا الضالعة في الحرب، وكذا الموقف الدولي داخل مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وأخيرًا الدعوى في محكمة العدل الدولية عن جرائم الحرب الإسرائيلية، كلها تضع إسرائيل أمام الإجابة عن سؤال اليوم التالي، وربما قبل التالي.