> حبيب عبدالرب سروري:
بِمهنيّةٍ عالية أعادت الأيام، السبت 28 يناير 2006، نشر مقال: «مسلسل الكذب» الذي نشرتهُ في 1992. لعلَّها كشفََتْ بجلاء، بوعي أو بغير وعي، المعايير والطرائق التي يتبِّعها الحكّام في اختيار واجهاتهم الرسمية في أغلب الأحيان!
مقال «مسلسل الكذب» بحدِّ ذاته رائع جدا! يُشخِّصُ بصدق المأساة التي تحياها مدينة عدَن: «أكذوبة العاصمة الاقتصادية والتجارية لدولة الوحدة» كما أسماها المقال، «أراضي عدَن التي سُلِبتْ بإيعاز من المسئولين والقيادات» كما قال ايضا، ظلم تسعيرة الكهرباء وانقطاعها المتواصل.. بالطبع، كتب ذلك المقال في 1992 قبل أن يتضاعف الجوع والفقر وانتشار الأمراض وتزداد «مصائب عدَن» (حسب تعبير المقال) منذ ذلك الوقت مع ازدياد التدهور العام لليمن وانحدار «مؤشر التنمية البشرية» فيها.
ما أزعجني فقط في ذلك المقال هو خاتمته: «أقسم بالله لو تركوا عدَن لِناسها لأصبحت المدينة الحرّة رقم واحد في الدنيا! أتركوها أيها الأسياد!...» خاتمةٌ شديدةُ الإقليمية والانغلاقِ الجغرافي: ماذا لو قال أهل كل مدينة في العالم بأن تسيير مدينتهم من شأنهم هم وحدهم: «بيروت للبيروتيِين» «مدريد للمدريديين»، «طور الباحة للطور باحاويين»... أعتقدُ شخصيّاً أن إنسان العصر الحديث تجاوز في نظرته للآخر هذه الدوائر المناطقية والقبليّة والفئوية الضيقة القادمة من عصورٍ زمنيّةٍ سحيقة.
حاولتُ بعد قراءة هذا المقال أن أتابع جديد انتاجات كاتب «مسلسل الكذب»... لجأتُ إلى إنترنت. فوجئت أنه هو نفسه رئيس تحرير الصحيفة الالكترونية، مؤتمرنت، للحزب الحاكم، التي يمكن أن يقرأها على إنترنت أي إنسان في أي مكان في العالم! هو إذن واجهةٌ إعلاميةٌ هامة للبلد أمام العالم!... غير أن مقالاته اليوم في صحيفة الحزب الحاكم على إنترنت هي العكس النموذجي لمقال «مسلسل الكذب» ونقيضه الكامل في كل الاتجاهات...
أحد تلك المقالات (السبت 28 يناير 2006)، بعنوان «عبدالرحمن التعزّي والأربعة الأولاد من عدَن»، يقول فيه إنه أعطى لآخر أبنائه «اسماً تعزيّاً»: عبدالرحمن!... مضيفاً: «عبدالرحمن المولود في تعز وأمثاله هم الأحب والأغلى، لأنهم المعزِّزون للوحدة الوطنية للشعب!».
استغربت أوّلا لماذا يرى الكاتب أن اسم عبدالرحمن «تَعِزِّي»! لا أظنّ شخصيّاً أن ثمّة قرية أو مدينة في اليمن والجزيرة العربية عموماً لم يولد فيها محمد، أحمد، علي، عبدالله، عبدالرحمن، عبدالقادر... فعلى سبيل المثال، معظم النجوم «العبدالرحمانيين» في اليمن ليسوا بالضرورة من مواليد تعز: عبدالرحمن فخري، البيضاني، الإرياني، الجفري، باجنيد، عبدالخالق، جرجره، بلجون، ابراهيم... ناهيك أن اليمن لا تحتكِرُ ناصية «التِّرِحْمَان»: يروى أن ثمّة قرية في موريتانيا لا يوجد بها منزلٌ دون اسم عبدالرحمن!...
صحيح أن بعضَ الأسماء أكثرُ رواجاً في هذه المدينة أو تلك («أمَةُ العليم» في صنعاء، «مهيوب» و«راوح» في تعز، «عبدربه» و«الخضر» في محافظة أبين...) غير أن اسم عبدالرحمن (المشتق من اسم الجلالة: الرحمن، الذي كان من أكثر أسماء الألوهية استخداما قبل الإسلام في الجزيرة العربية) هو أقل هذه الأسماء ارتباطا بمدينة يمنيّة معيّنة، بما فيها المدينة الرائعة جدا: تَعِز!... استنتاجٌ غريبٌ جدّا إذن أن يُقرِّر الكاتب بأن اختيار اسم عبدالرحمن «التعزّي» تعزيزٌ للوحدة اليمنية! المقال الآخر لنفس الكاتب، الذي سبق هذا المقال بيومين تقريبا، بعنوان: «البجوان»، ليس أكثر عمقاً وكثافةً من هذا المقال... يبدأ المقال بهذا السؤال: «هل أنتم مع الوحدة أو ضدها كما جرت عادة مواقفكم؟»... في الحقيقة، لم يعد السؤال سؤالاً لأن الكاتب يردُّ فيه على نفسه: المخاطبون هم بالضرورة ضد الوحدة اليمنية، لأن تلك «عادة مواقفهم» حسب قولهِ في نص سؤالِه!... غريبة جدّا هذه البداية التشكيكية بالآخرين من كاتبٍ صرخَ يوما: «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...» غريبٌ جدّاً أيضاً عنونةُ الكاتب لِمقالِهِ بـ «البجوان» الذي أخاف أن يكون قد فصّله لِنفسه أكثر من غيره... غريبٌ جدّاً أن يُكرِّس، هو نفسه وفي أربعة أيّام، ثلاث مقالات موجّهة لمن يسميهم «أعداء الوحدة اليمنية» كان أوَّلها بعنوان «لِوجه الله، إلا الوحدة» في 24 يناير! لعلّ ازدحام هذا الزيف أيقظ وحشاً نائماً: ذاكرة «الأيام»!...
قرَّرتُ مع ذلك أن أقرأ مقال «البجوان» رغم أن سؤاله الافتتاحي يتضمن الإجابة! يقول المقال: «إذا كنتم مع الوحدة فينبغي عليكم عمل ما يلي:».. سرَدَ الكاتب تسعة شروط، أشبه بـ «النظام الداخلي» للوحدوي اليمني! بنفس لغة مقالات السبعينات التي كانت تُحَدِّدُ مهامَ وشروط الدفاع عن «الثورة الوطنية الديمقراطية» و«الاشتراكية العلمية»، وبنفس بلاغتها المملوءة بكلمات: العملاء، الأتباع، الخونة...
أكثر ما أمتعني في «الشروط التسعة» هو الرابع والثامن والتاسع! الشرط الرابع: «عدم السماح لانتشار أخبار الجرائم أن تكون سيدة الموقف على صدر صحفكم وكأنكم ممثلو الجريمة المعتمدون في البلاد.» لم أفهم لماذا نَشرُ أخبارِ الجرائم على صدر صحيفة (كما هو موجود في كل دول العالم بما فيها موريتانيا) هو عمل ضد الوحدة اليمنية!... بدأتُ في الحقيقة أخاف على الوحدة اليمنية من هذا الابتذال والهرج والإقحام في كل الصوصات والعودة لبلاغة السبعينات!...
ثمَّ يبدو أن الكاتب انزاح بعيدا: نسي تماما أنه يسرد شروط ومواصفات الوحدوي اليمني! ها هو يواصل مخاطباً «عملاء» ولاعبي شطرنج وبيادق وكائنات ظلامية خفيّة صامتة يريدها أن تنطق أو تتحرك. الشرط الثامن: تذكروا أن الاستقواء بالأجنبي جعلكم عملاء في السابق فهل تحنوا لهذا الدور في الحاضر والمستقبل؟ الشرط التاسع: بدل من أن تحرك بيادق شطرنج «طالبين الله».. تحرك أنت واسمعنا صوتك وإلا اصمت فنصمت ونتركك لحال سبيلك. اوووه! الشرط التاسع معقّدٌ جداً، أصعبُ للفهم من كلِّ شروطِ «المناضل الثوري» في النظام الداخلي للتنظيم السياسي الموحد في السبعينات!.
بعد «الشروط التسعة»، يُعرِّفُ الكاتب ويتفاخر بِنفسه: «فميري علي عبدالله صالح أشرف من وجوه كل الانفصاليين والخونة وبائعي المواقف والأتباع والجياع أصحاب الخواء الفكري والجسدي والروحي...» ها هو يسمي نفسه: ميري علي عبدالله صالح! ويقول إنه أشرف من كل الانفصاليين والخونة وبائعي المواقف والأتباع... لا أدري من طلب منه أن يشهد على نفسه ولماذا يشعرُ بالحاجة لذلك!...
غير أن المقال بلغَ ذروة الهزل (والبذاءة التي أزعجتني شخصيّاً بشكل كبير) عندما اعتبرَ الجوعَ والخواءَ الجسدي سببا لنقص الشرف: ما دخل الجوع بنقص الشرف؟ ماذا تفعل كلمة «الجوع» في هذا السياق؟ لماذا الجياع أصحابُ الخواء الجسدي هم قليلو شرف؟! ألا يكفيهم الجوع والخواء الجسدي؟ أوليسوا بالضرورة أكثر شرفاً من الذين يكسبون عيشهم بالتطبيل والنهب والفساد وتغيير الانتماء حسب العرض والطلب، ومدح كلِّ الحكّام الأول بعد الآخر؟... لو كان الجياعُ ذوو الأجساد الخاوية هم فعلاً بلا شرف، فالمشتوم ضمنيّاً هنا هو معظم الشعب اليمني الذي صار اليوم، بعد تدهور معدلات التنمية سنة بعد سنة في اليمن وزيادة الفساد فيها، من أجوع شعوب العالم وأكثرها مرضاً وفقراً وبؤساً وسوء تغذية!...
خاتمة المقال بعد ذلك لا تقل دعابة وهزلاً! يقول الكاتب: «هل أنتم مع الوحدة أو ضدها، قولوا وكونوا رجال ولو لمرة واحدة في حياتكم»
واووووو!...
أبارك في الأخير لصحيفة «الأيام» حسنَ اختيارها الفذ لِمقال «مسلسل الكذب» المُعاد نشره، لسببين على الأقل: لأن المقال نفسه كان دقيقاً وبشكل مبكّر في وصف مآسي عدَن، وإن كان للأسف في فقرته الأخيرة «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...» يميلُ إلى نمطٍ من النزعة الإقليمية العرقيّة الضيّقة... ولأن هذا الاختيار يشرح في الأساس، بعمق وبشكل غير مباشر، معايير ومنهجية الحاكم العربي عموماً في انتقاء أهم واجهاته الإعلامية، وأين وكيف يجدها. يتمّ ذلك في سيناريو شبيه بهذا:
تُقرأُ لِلحاكم عبارةٌ من طراز: «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...»! يطلبُ إعادة سماعها مرة، مرتين، ثلاث مرات! لا يُصدِّق أذنيه! يفركُ يديه فرحاً! يسيل لُعابه! تتوهَّجُ أساريره! يعرف بدهاء أنه وجد ضالته! وجد الكاتب الأفضل الذي (إذا اشتغل في خدمته) فلن يُقصِّر بأن يُكفِّر عن ذنب عبارته! سيكون لذلك «رقم واحد في الدنيا» في تحويل كلِّ ما كان يُسمِّيها في السابق «مصائب» إلى انجازات وأمجاد..
سيناريو تقليدي جدّا لا تُنغِّصهُ بين الفترة والفترة إلا تململات وحشٍ نائمٍ يفتحُ بين الفينة والفينة عيناً واحدة: ذاكرةُ الأيام!.
مقال «مسلسل الكذب» بحدِّ ذاته رائع جدا! يُشخِّصُ بصدق المأساة التي تحياها مدينة عدَن: «أكذوبة العاصمة الاقتصادية والتجارية لدولة الوحدة» كما أسماها المقال، «أراضي عدَن التي سُلِبتْ بإيعاز من المسئولين والقيادات» كما قال ايضا، ظلم تسعيرة الكهرباء وانقطاعها المتواصل.. بالطبع، كتب ذلك المقال في 1992 قبل أن يتضاعف الجوع والفقر وانتشار الأمراض وتزداد «مصائب عدَن» (حسب تعبير المقال) منذ ذلك الوقت مع ازدياد التدهور العام لليمن وانحدار «مؤشر التنمية البشرية» فيها.
ما أزعجني فقط في ذلك المقال هو خاتمته: «أقسم بالله لو تركوا عدَن لِناسها لأصبحت المدينة الحرّة رقم واحد في الدنيا! أتركوها أيها الأسياد!...» خاتمةٌ شديدةُ الإقليمية والانغلاقِ الجغرافي: ماذا لو قال أهل كل مدينة في العالم بأن تسيير مدينتهم من شأنهم هم وحدهم: «بيروت للبيروتيِين» «مدريد للمدريديين»، «طور الباحة للطور باحاويين»... أعتقدُ شخصيّاً أن إنسان العصر الحديث تجاوز في نظرته للآخر هذه الدوائر المناطقية والقبليّة والفئوية الضيقة القادمة من عصورٍ زمنيّةٍ سحيقة.
حاولتُ بعد قراءة هذا المقال أن أتابع جديد انتاجات كاتب «مسلسل الكذب»... لجأتُ إلى إنترنت. فوجئت أنه هو نفسه رئيس تحرير الصحيفة الالكترونية، مؤتمرنت، للحزب الحاكم، التي يمكن أن يقرأها على إنترنت أي إنسان في أي مكان في العالم! هو إذن واجهةٌ إعلاميةٌ هامة للبلد أمام العالم!... غير أن مقالاته اليوم في صحيفة الحزب الحاكم على إنترنت هي العكس النموذجي لمقال «مسلسل الكذب» ونقيضه الكامل في كل الاتجاهات...
أحد تلك المقالات (السبت 28 يناير 2006)، بعنوان «عبدالرحمن التعزّي والأربعة الأولاد من عدَن»، يقول فيه إنه أعطى لآخر أبنائه «اسماً تعزيّاً»: عبدالرحمن!... مضيفاً: «عبدالرحمن المولود في تعز وأمثاله هم الأحب والأغلى، لأنهم المعزِّزون للوحدة الوطنية للشعب!».
استغربت أوّلا لماذا يرى الكاتب أن اسم عبدالرحمن «تَعِزِّي»! لا أظنّ شخصيّاً أن ثمّة قرية أو مدينة في اليمن والجزيرة العربية عموماً لم يولد فيها محمد، أحمد، علي، عبدالله، عبدالرحمن، عبدالقادر... فعلى سبيل المثال، معظم النجوم «العبدالرحمانيين» في اليمن ليسوا بالضرورة من مواليد تعز: عبدالرحمن فخري، البيضاني، الإرياني، الجفري، باجنيد، عبدالخالق، جرجره، بلجون، ابراهيم... ناهيك أن اليمن لا تحتكِرُ ناصية «التِّرِحْمَان»: يروى أن ثمّة قرية في موريتانيا لا يوجد بها منزلٌ دون اسم عبدالرحمن!...
صحيح أن بعضَ الأسماء أكثرُ رواجاً في هذه المدينة أو تلك («أمَةُ العليم» في صنعاء، «مهيوب» و«راوح» في تعز، «عبدربه» و«الخضر» في محافظة أبين...) غير أن اسم عبدالرحمن (المشتق من اسم الجلالة: الرحمن، الذي كان من أكثر أسماء الألوهية استخداما قبل الإسلام في الجزيرة العربية) هو أقل هذه الأسماء ارتباطا بمدينة يمنيّة معيّنة، بما فيها المدينة الرائعة جدا: تَعِز!... استنتاجٌ غريبٌ جدّا إذن أن يُقرِّر الكاتب بأن اختيار اسم عبدالرحمن «التعزّي» تعزيزٌ للوحدة اليمنية! المقال الآخر لنفس الكاتب، الذي سبق هذا المقال بيومين تقريبا، بعنوان: «البجوان»، ليس أكثر عمقاً وكثافةً من هذا المقال... يبدأ المقال بهذا السؤال: «هل أنتم مع الوحدة أو ضدها كما جرت عادة مواقفكم؟»... في الحقيقة، لم يعد السؤال سؤالاً لأن الكاتب يردُّ فيه على نفسه: المخاطبون هم بالضرورة ضد الوحدة اليمنية، لأن تلك «عادة مواقفهم» حسب قولهِ في نص سؤالِه!... غريبة جدّا هذه البداية التشكيكية بالآخرين من كاتبٍ صرخَ يوما: «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...» غريبٌ جدّاً أيضاً عنونةُ الكاتب لِمقالِهِ بـ «البجوان» الذي أخاف أن يكون قد فصّله لِنفسه أكثر من غيره... غريبٌ جدّاً أن يُكرِّس، هو نفسه وفي أربعة أيّام، ثلاث مقالات موجّهة لمن يسميهم «أعداء الوحدة اليمنية» كان أوَّلها بعنوان «لِوجه الله، إلا الوحدة» في 24 يناير! لعلّ ازدحام هذا الزيف أيقظ وحشاً نائماً: ذاكرة «الأيام»!...
قرَّرتُ مع ذلك أن أقرأ مقال «البجوان» رغم أن سؤاله الافتتاحي يتضمن الإجابة! يقول المقال: «إذا كنتم مع الوحدة فينبغي عليكم عمل ما يلي:».. سرَدَ الكاتب تسعة شروط، أشبه بـ «النظام الداخلي» للوحدوي اليمني! بنفس لغة مقالات السبعينات التي كانت تُحَدِّدُ مهامَ وشروط الدفاع عن «الثورة الوطنية الديمقراطية» و«الاشتراكية العلمية»، وبنفس بلاغتها المملوءة بكلمات: العملاء، الأتباع، الخونة...
أكثر ما أمتعني في «الشروط التسعة» هو الرابع والثامن والتاسع! الشرط الرابع: «عدم السماح لانتشار أخبار الجرائم أن تكون سيدة الموقف على صدر صحفكم وكأنكم ممثلو الجريمة المعتمدون في البلاد.» لم أفهم لماذا نَشرُ أخبارِ الجرائم على صدر صحيفة (كما هو موجود في كل دول العالم بما فيها موريتانيا) هو عمل ضد الوحدة اليمنية!... بدأتُ في الحقيقة أخاف على الوحدة اليمنية من هذا الابتذال والهرج والإقحام في كل الصوصات والعودة لبلاغة السبعينات!...
ثمَّ يبدو أن الكاتب انزاح بعيدا: نسي تماما أنه يسرد شروط ومواصفات الوحدوي اليمني! ها هو يواصل مخاطباً «عملاء» ولاعبي شطرنج وبيادق وكائنات ظلامية خفيّة صامتة يريدها أن تنطق أو تتحرك. الشرط الثامن: تذكروا أن الاستقواء بالأجنبي جعلكم عملاء في السابق فهل تحنوا لهذا الدور في الحاضر والمستقبل؟ الشرط التاسع: بدل من أن تحرك بيادق شطرنج «طالبين الله».. تحرك أنت واسمعنا صوتك وإلا اصمت فنصمت ونتركك لحال سبيلك. اوووه! الشرط التاسع معقّدٌ جداً، أصعبُ للفهم من كلِّ شروطِ «المناضل الثوري» في النظام الداخلي للتنظيم السياسي الموحد في السبعينات!.
بعد «الشروط التسعة»، يُعرِّفُ الكاتب ويتفاخر بِنفسه: «فميري علي عبدالله صالح أشرف من وجوه كل الانفصاليين والخونة وبائعي المواقف والأتباع والجياع أصحاب الخواء الفكري والجسدي والروحي...» ها هو يسمي نفسه: ميري علي عبدالله صالح! ويقول إنه أشرف من كل الانفصاليين والخونة وبائعي المواقف والأتباع... لا أدري من طلب منه أن يشهد على نفسه ولماذا يشعرُ بالحاجة لذلك!...
غير أن المقال بلغَ ذروة الهزل (والبذاءة التي أزعجتني شخصيّاً بشكل كبير) عندما اعتبرَ الجوعَ والخواءَ الجسدي سببا لنقص الشرف: ما دخل الجوع بنقص الشرف؟ ماذا تفعل كلمة «الجوع» في هذا السياق؟ لماذا الجياع أصحابُ الخواء الجسدي هم قليلو شرف؟! ألا يكفيهم الجوع والخواء الجسدي؟ أوليسوا بالضرورة أكثر شرفاً من الذين يكسبون عيشهم بالتطبيل والنهب والفساد وتغيير الانتماء حسب العرض والطلب، ومدح كلِّ الحكّام الأول بعد الآخر؟... لو كان الجياعُ ذوو الأجساد الخاوية هم فعلاً بلا شرف، فالمشتوم ضمنيّاً هنا هو معظم الشعب اليمني الذي صار اليوم، بعد تدهور معدلات التنمية سنة بعد سنة في اليمن وزيادة الفساد فيها، من أجوع شعوب العالم وأكثرها مرضاً وفقراً وبؤساً وسوء تغذية!...
خاتمة المقال بعد ذلك لا تقل دعابة وهزلاً! يقول الكاتب: «هل أنتم مع الوحدة أو ضدها، قولوا وكونوا رجال ولو لمرة واحدة في حياتكم»
واووووو!...
أبارك في الأخير لصحيفة «الأيام» حسنَ اختيارها الفذ لِمقال «مسلسل الكذب» المُعاد نشره، لسببين على الأقل: لأن المقال نفسه كان دقيقاً وبشكل مبكّر في وصف مآسي عدَن، وإن كان للأسف في فقرته الأخيرة «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...» يميلُ إلى نمطٍ من النزعة الإقليمية العرقيّة الضيّقة... ولأن هذا الاختيار يشرح في الأساس، بعمق وبشكل غير مباشر، معايير ومنهجية الحاكم العربي عموماً في انتقاء أهم واجهاته الإعلامية، وأين وكيف يجدها. يتمّ ذلك في سيناريو شبيه بهذا:
تُقرأُ لِلحاكم عبارةٌ من طراز: «اتركوا عدَن أيها الأسياد!...»! يطلبُ إعادة سماعها مرة، مرتين، ثلاث مرات! لا يُصدِّق أذنيه! يفركُ يديه فرحاً! يسيل لُعابه! تتوهَّجُ أساريره! يعرف بدهاء أنه وجد ضالته! وجد الكاتب الأفضل الذي (إذا اشتغل في خدمته) فلن يُقصِّر بأن يُكفِّر عن ذنب عبارته! سيكون لذلك «رقم واحد في الدنيا» في تحويل كلِّ ما كان يُسمِّيها في السابق «مصائب» إلى انجازات وأمجاد..
سيناريو تقليدي جدّا لا تُنغِّصهُ بين الفترة والفترة إلا تململات وحشٍ نائمٍ يفتحُ بين الفينة والفينة عيناً واحدة: ذاكرةُ الأيام!.