> «الأيام» د. رجاء باطويل:

يعتقد أن التنقيب عن الآثار يعني مجرد الحفر من أجل الحصول على آثار ثمينة أو تحف تدر المال على أصحابها، بينما المسألة عكس ذلك تماما، فالآثارعلم يتلخص في مسألتين ترتبط ببعضهما البعض ارتباطا وثيقا:

أولهما: أعمال الحفر والتنقيب واستخراج (اللُّقَى) الآثار وتسجيل أوصافها (أوضاعها كما هي في الموقع ثم المحافظة عليها بصيانتها ترميمها وتسجيلها وتوثيقها).

ثانيهما: استخدام هذه الآثار في إلقاء أضواء جديدة على الحضارات الإنسانية التليدة وتطورها واستنباط التاريخ منها.

وعليه تعتبر المتاحف هي المكان الذي تحفظ وتعرض فيه هذه (اللقى) الآثار، وبالتالي تعكس مستوى التقدم الرائع لعلم الآثار، وكذا أعمال التقنيات والترميم.

هذا العلم الذي استطاع من خلال الكشف (القطع المكتشفة) والمعروضة أن يسهم في إحياء تاريخ أمم وشعوب كانت مجهولة، وحضارات قديمة وفنون وآداب وعادات وتقاليد وغيرها.

فعالم الآثار تقع عليه مهمة صعبة وكبيرة، فهو الذي يعيد لنا تحفة جميلة من أثر قد يكون تحلل أكثره إلى أجزاء، وهو الذي يعطينا تصورا حيا للمواقع المهجورة، حيث يحييها إلى مدن عامة تدب فيها الحياة والحركة، وينقلها من صورة جامدة إلى صورة حية مفعمة بالإشراق أمامنا.

كما يعطينا تصورا عن قبور الموتى بمحتوياتها لنعرف العادات والتقاليد والطقوس والفنون المعروفة آنذاك، كل ذلك من خلال عرضها في المتاحف.

إن الكشف عن العالم الماضي ومعرفته يؤثر فينا جميعا، ويصبح جزءا من الإرث الثقافي العام، ويبحث أيضا في الإنسان صانع ومبدع الحضارات.

فمثلا حين نرى نظام صرف الماء الدقيق (في متحف الصهاريج المفتوح) أي صهاريج عدن الأثرية التاريخية من خلال وثيقة شبكة المياه الباقية والكاملة نحس بعظمة إنساننا اليمني وتفكيره، فلم يقف مكتوف الأيدي أمام قهر الطبيعة وانعدام المياه العذبة، واستطاع بتفكيره أن يوجد المياه العذبة لموقع (الميناء القديم) الذي ذاع صيته بين أشهر ثلاثة موانئ في العالم القديم إن لم يكن أشهرها، من خلال إقامة وتشييد ملاقف المياه على الجبال والنتوءات، والاستفادة من خانق الطويلة في توجيه المياه التي يتلقفها من الجبال، لتكون هذه الملاقف بمثابة حماية لمدينة عدن القديمة من تدفق المياه عليها بقوة وتدميرها، هذا من جانب، ومن جانب آخر تقديم خدمة للسفن الواصلة إلى الميناء القديم، بتوفير ماتحتاجه من المياه العذبة.

الميناء قديما
الميناء قديما
فالصهاريج والميناء يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطا وثيقا، فلم يكن ليكتب للميناء التطور من دون الصهاريج (المياه) والعكس، وهذه الفرضية هي نتاج تاريخ مدينة عدن (المائي)، من خلال إيجاد شبكة مياه دقيقة وتكنيك عالٍ في إقامتها لتوفير المياه، وكذا الجمال في التشييد والنحت رغم صعوبة الصخر.

أما المقابر القديمة فإن أدواتها الجنائزية المكتشفة المعثورات، تعطينا تصورا عن الحياة في تلك الحقبة من جانبين:

1- المعتقد الديني بالحياة الأخرى ما بعد الموت، وتعطي الأدوات الجنائزية تصورا عن طقوس الموت، ولحظة الانتقال من حياة إلى حياة أخرى.

2- تعطينا المعثورات من الأدوات الجنائزية، كالحلي والأدوات والأواني والعملات، وغيرها من الأدوات التي تعتقد باحتياج الشخص (الميت) له أو كل مايحتاجه في حياته.

تصور عام عن الحياة في تلك الحقبة، من نحت وفن أي مستوى الرقي في الفنون والعلوم والطقوس (كالتحنيط) مثلا، وتنقلنا إلى صورة حية تتحرك أمامنا فيها كل تلك الأشياء.

فالمتاحف هي المكان الطبيعي الذي تعرض فيه كل تلك الأشياء ارتباطا (كرومولوجيا كرنولوجيا) أي مكانيا وزمانيا، من خلال استعراض حلقات دورات التاريخ كاملة من عصور ماقبل التاريخ (الممالك اليمنية القديمة) والفترة الإسلامية، وأخيرا التراث الشعبي الذي يحكي عن دورة نشاط حياة الإنسان كاملة، منذ الولادة وحتى الوفاة، وما صاحبها من فنون وإبداعات أخرى، أي أن التراث المعاش ذو ارتباط وثيق بالتراث القديم الذي لايمكن بأي حال من الأحوال دراسته أومعرفة حلقة من حلقاته دون أخرى، هذا الترابط الدقيق لايمكن أن يكون بدون دراسة علمية وثيقة، وبالتالي فإن العبث بمحتويات المواقع والمقابر وتدميرها، وكذا طمس هويتها، يؤثر على القيمة العلمية للمكتشف، فضياع مصدرها يعني ضياع تاريخها، وهنا تكمن أهمية التنقيب ودراسة المعثورات في مواقعها الأصلية الموجودة فيها.

الصهاريج
الصهاريج
أما إذا انتقلت القطعة (المعثورات) من شخص إلى آخر دون التمكن من دراستها في موقعها الأصلي، فإنها تفقد قيمتها العلمية الأثرية التاريخية، ولايمكن دراستها دراسة حقة، وتصبح هنا تحفة فنية مقتناة، ويصبح التخمين ضرب من ضروب الحكم عليها، وتفقد مصداقيتها العلمية في أحايين كثيرة، وكذا الحال بالنسبة للأواني والأدوات الأخرى وغيرها التي تنقل من مكان اكتشافها إلى أماكن أخرى دون التبليغ عنها، وتمكين المختصين من دراستها في أماكنها التي وجدت فيها، وتصبح بالتالي شيئا لاقيمة له، ولو أنها درست في مواقعها لأعطت الكثير من المعلومات والمعطيات، ولأزالت اللثام عن كثير من الغموض الذي مازال يعاني منه تاريخ اليمن القديم في بعض حلقاته، ولمُكِّن الدارسون والمهتمون من دراسته، ولن يتأتى ذلك إلا بتضافر الجهود والتوعية الأكيدة للمواطنين، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، ويصبح العبث بالمواقع الأثرية (المباني المقابر.. إلخ) وكذا العبث بالمعثورات جريمة جسيمة لأنه طمس للتاريخ، إن كان متعمدا أم غير متعمد، لأن التاريخ ملك الجميع (تراث إنساني)، كما أن المتاحف تقوم هي الأخرى بدور ثقافي كبير في توعية الجماهير بمختلف شرائحها من خلال ماتقدمه من مادة استعراضية لحلقات التاريخ الكاملة، وكذا العادات والتقاليد والطقوس والفنون والحرف.. إلخ الخاصة به، بالإضافة إلى تاريخ وحضارات الشعوب الأخرى، من خلال التأثير والتأثر ببعض المكتشف (المعثورات) وفن النحت فيها، وكذا العملات والأدوات.. إلخ، بالإضافة إلى أنها قد تقدم مواضيع علمية وخدمات لباحث أو دارس أو فنان أو نحات، والأهم من كل ذلك غرس القيم الثقافية الوطنية، وتعليم النشء والطلاب في المدارس وتربيتهم على تلك القيم، من خلال الزيارات الميدانية للمتاحف، أو من خلال ما يتلقونه في كتبهم الدراسية عن تلك الحضارات ماضيهم وحاضرهم (هويتهم التاريخية والوطنية) بدايتها تكون في النشء لرياض الأطفال، ليس ذلك فقط بل إن المتاحف تقدم رسالة نبيلة انتمائية تعليمية للجميع.

وبالتالي فالمتاحف تعتبر الوعاء العلمي الصحيح الذي يعرض الفنون المختلفة لتاريخ شعب بعينه وعاداته وتقاليده، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحافظ على تلك المقتنيات بصيانتها وترميمها، ويصبح من الأهمية بمكان اعتبار هذه المتاحف مؤسسات علمية بحثية، ليس كما ينظر لها على أنها دُور للعرض تفرض علينا الاهتمام بها وتأهيلها، من خلال (صيانتها - وترميمها - وتأمينها)، خاصة وأنها تحكي عن تاريخنا وهويتنا الوطنية، فشعب بدون تاريخ هو شعب بدون هوية.