> نشوان العثماني

نشوان العثماني
نشوان العثماني
أريد لهذا الليل أن ينشطر نصفين، لينبثق النور الذي سيريني جيدًا كيف أكتب إليك يا صديقي.
طيلة شهر كامل لم أستطع الكتابة عنك، وصلتني رسالة من صديقنا المشترك وسام، كررها مرات وكل مرة أقول له سأكتب.
ومرات وصلتني الرسالة ذاتها من صديقنا المشترك محمد عبدالرحمن، وكل مرة الحال لا يقع في الحال. فالكلمة لا بد أن تدخل الحال كي ترقى إلى المقام وتصل إليك.
سأحكي لك هنا القصص من بعدك.
في الموصل عام 1971 قال الرائي العظيم: ماذا جرى يا أبا تمام تسألني؟ عفوًا سأروي ولا تسأل وما السبب.
لم نقرأ القصيدة معًا، لكننا دون شك قرأناها.
الحال ذاته يا صديقي، لا تسلني ماذا جرى للمدينة وللحلم ولليل والصباح.
الحال ذاته لطفل يغرق.
لكن دعني أحكي لك قصصنا نحن أصدقاؤك وأحباؤك.
كلما التقينا في مقهى من مقاهي المدينة نرسم الضوء الذي كنته ونحاول أن نراه. ونحن نستطيع أن نراه في الداخل، لكننا بدل أن نواصل ابتهالاتنا وصلواتنا وتقشفاتنا وابتعاداتنا عن هذا العالم لحتى نرى اللا يُرى حيث العمق القريب جدًا البعيد أكثر، الجوهر الذي في الداخل، في السماوات، بدل أن نحث الخطوات وكل خطوة تكمل وتتقدم وتأتي الذي تأتي وتدفعنا أكثر، ترانا نكتفي بالقصة نتدفأ بها ونأنس، ثم ننام ويشرق صباح لا جديد فيه.
السؤال البديهي جدًا:
متى يشرق الجديد يا رفيق؟
اسمع موسيقاك هذه «يا رفيق».
من ذا الذي يجيب؟
يتأتى كثيرون، وآخرون يعرفون فصيح القول لكن بمضمون خاوٍ. وكل مرة ترى الجملة الثقافية تتراجع لصالح اللا جملة واللا ثقافة، واللا فعل ثقافي في مساحة من جسد المدينة تُرك دون طبيب، ثم كانت كل المستشفيات في حالة عجز، ووجدنا الأطباء مقيدين في الداخل، ولاحقًا وجدنا كل طبيب في بيته لا يتجاوز نطاق حافته في كل حركة يومه.
لم نستطع الاقتراب لنسأل.
قرأ كل منا الإجابة كما يريد، لكن بمعنى واحد.
قال صديقنا الحاج مسعود وقد التقيته في محله الدائم: المطر لا يزال يهطل والأرض خصبة، غير أن يد الذئب الآثمة استهدفت فلاحينا وخرافنا، في غياب الراعي.
قرأ صديقنا هذا الغياب المشار إليه، لكنه لا يرى أنه لا غياب، وأن الراعي لم يسمح بشيء، وأننا نتوهم فيما الواجب أن نبحث عن أقرب قمرة للاتصال وتفعيل نشاطنا ولم الشمل وجمع الأخوة واتخاذ ما يلزم.
ثم كان ثلاثة من رفاقنا ذاهبون إلى منزلك، وحدث أن خُطفوا.
لم نستطع حتى الآن القول أكثر. والرفاق خارج المدينة يكتبون وقد أطل أحدهم من عاصمة بعيدة وقال ما يلزم، غير أننا لا نحتاج أكثر للإيقاظ، وندع الوعي الجمعي يبحث عن اللحظة المناسبة وربما كانت عما قريب قادمة.
استيقظ كثيرون. اطمأن يا صديقي.
بعض منهم ترانا نتبادل قصائد مولانا، ونشاهد المولوية معًا، وألفيتني ذات صباح أقول لصديقتنا المشتركة: في مارس من عام مضى بعد حرب لا تزال، أرسل إلي صديقنا قصيدة من بحر مولانا، وما زلتُ لكثير يوميات أسمع وأرى، وفي كل محطة من موسيقى الروح أعزف أغنية حزينة، وتنهاني روحي أن أحزن وتقول لي: «الآن وهنا وهو هنا، لكن لمَ أنتم هناك ولم تفتئوا أن يكون في قلب كل منكم، وأن يمضي النور قُدمًا؟»
بمَ أجيبها يا صديقي؟
قلت لها: حسنًا، لما كنا معًا ما زلنا معًا، ولن نفترق. لهذا العالم حقه فنرى الظاهر فنحزن لكننا نستعيد بأسنا، واللا مكان مكاننا الخالد. سنكتسب بعضًا مما احتجب، وربما وعظنا الأسماك في الساحل كما فعل أحد الصالحين من قبل. ربما كان اسمه لا يحضرني الآن.
تبتسم، وهي تضع أمامي جملتها الذهبية مع أول شعاع في صباح أكتوبري فيروزي كنت أسمع فيه وأقرأ سورة يوسف:
تظنونه غاب، لكنه ما فعل. وقد حرث الأرض عند منطلق يجب أن يُبنى عليه.
أضافت: بعد عام وشهر من المنطلق الأول.
قاطعتها: منطلقان وضربات تتوالى، وفي مدينة مجاورة أيضًا واحد وقبل أيام ثانٍ، والآن صرنا أربعة، وآخرون كثيرون في الدرب ذاته باختلاف في المعنى ربما طفيف عند مستوى ما، الجوهر نفسه وذاته، وكل هذا الأنين! ماذا بعد؟
«لا تسل أكثر»، أجابت.
«الحياة على هذه الأرض تستحق الصباح. هذا الذي يجب وضعه في سهم أرجونا، ثم لا مزيد».
صديقي العزيز..
هل قرأت «أغنية العصافير الشريدة»؟
حسنًا، هلّا رقصنا معًا؟
يملأ الناي جنبات المكان.
أطمئنن لم تعد العصافير تنام في الشتات. ستصبح الشجرة أكبر، تعلمنا ما لم نتعلم بعد.
وهذا الجبل سيتفتت، وكما خر أخ له من قبل صعقا، له أن يُزاح من على الكاهل، بطريقة صديقنا عبد السميع، أو بطرق شتى مجتمعة.
لا خوف من بعد أن التحمتَ بالخلود.
ولا خوف من قبل.
فلما يصل النور كل حجرات النبض المستمر، لم يعد هناك ظلام.
وآخر قصيدة كنت أقرأها كان مولانا يحكي تأمله عن الظل والضوء.. هل رأيت ظلًا دون ضوء يا صديقي؟
رأيتك في القاعة الحمراء، وكنت في عجلة من أمرك، ولم تمكث. ومرة أخرى خطْف البصر رأيتك في المدينة الأولى قرب البركان. لم أسمع منك الكثير، ولاحقًا جرى الحديث كثيرًا.
في القاعة الحمراء يومها نادينا الجمع: افتحوا النوافذ كي يتسلل النور.
وفي الـ21 من أبريل الماضي جاء النداء ثانيةً: أمامك السماء واسعة ولا يكفي أن ترى الفضاء من النافذة. ها قد فتحتها فلا تكتفي، بل غادر الإطار وتمتمع بحريتك يا أخي. اكسر الجامد في القلب، ودع النبض يكتشف الطريق. لا تكن دليله، كن حاديه، وارعَ الصحب العزيز من الكائنات الجميلة وجميعهن جميلات ومن لم تكن بجمالها آتٍ لها الحب فافعل كما يدلك الإلهام، ارفض الصخب، وقدِ الأروكيسترا بسلام واطمئنان أيها العظيم بهجة الحضور الدائم يا مراد الألق.
لا تقل لي أنني لم أستطع أن أحكي شيئًا. أعرف أنني لم أتمكن، لكنني يا صديقي أراك، أرسم ابتسامتك، تصلك روحي، والصلوات لله في علاه.
ما المستتر في لغة القصيدة؟ ما المنادى؟
هذا كله صداك... وأنت أكثر.. والقادم النور.