> غسان شربل*
لا يحق لليمني، إلى أي جهة انتمى، أن يغلق النافذة التي فتحها «اتفاق ستوكهولم» لتمكين اليمن من استعادة سلامه. في إضاعة الفرصة مجازفةً لن تؤدي إلا إلى تعميق الخسائر ومضاعفة الأخطار المحدقة بهذا البلد ومواطنيه. ثم إن القطار الذي توقف في ستوكهولم لمساعدة المدنيين على الخروج من الحرب قد يتأخر في العودة ثانية لإعادة فتح النافذة.
يحتاج اليمني إلى ما يضمن توفر الغذاء لعائلته. وإلى انتظام توجه أولاده إلى المدارس. وعودة الحد الضروري من الأمن. والحد الأدنى من الخدمات. يحتاج إلى الشعور بوجود سقف واحد يستطيع اليمنيون العيش تحته حتى لو اختلفوا فيما بينهم واختلفوا معه. ولا سقف في النهاية غير الدولة والشرعية مهما بلغ حد التمزقات والتباينات.
لا يحتاج اليمنيون إلى من يذكرهم بمخاطر العيش بلا دولة تبسط سلطتها على كامل أراضيها. الدرس الصومالي لا يزال مفتوحاً وبليغاً. وأخطر ما يمكن أن يصيب بلداً من البلدان هو أن يعتاد العالم على رؤيته ممزقاً وغارقاً في دمه يعجز عن إنقاذ نفسه ويقاوم رغبة الآخرين في إنقاذه. نسي العالم الصومال الذي ينزف. يتذكره أحياناً حين تتصاعد الممارسات الفظة للقراصنة مهددة حركة الملاحة. والدروس تفيد بأنه من الصعب إرغام الشعوب على إقامة السلام إن لم تتخذ قرارها في هذا الاتجاه. يستطيع العالم محاصرة النار المشتعلة في أحد المسارح. يستطيع أيضاً فرض وقف لإطلاق النار. لكن السلام يبقى صناعة داخلية أولاً وأخيراً. وحصانة أي بلد تبدأ من قرار أبنائه بالعيش معاً، ودفع الأثمان التي يرتبها هذا القرار.
لهذه الأسباب يبدو «اتفاق ستوكهولم» فرصة يرتكب اليمنيون خطأ فادحاً، إذا تسببوا بإضاعتها لاعتبارات غير يمنية. فرصة لوقف المواجهات الدامية. وفرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير جدياً في خطوات ملموسة للخروج من الحرب. الخروج من متاريس المواجهة وقواميس الكراهية إلى البحث في اللقاء داخل المؤسسات وتحت سقف القانون وفي يمن يتعايش مع جيرانه وفق مبادئ الأخوة وحسن الجوار واحترام المواثيق الدولية.
يشكل «اتفاق ستوكهولم» فرصة لأسباب كثيرة. أولها وجود إرادة دولية واضحة بإنهاء حرب اليمن، نظراً لما تسببه من خسائر بشرية واقتصادية، ولتفادي ارتفاع منسوب السخونة فيها على نار التجاذب الإقليمي. جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن مارتن جريفيثس عبرت بوضوح عن وجود هذه الإرادة. انضمام الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش إلى المحطة السويدية قدّم دليلاً إضافياً على الانخراط الدولي الفاعل في رعاية رحلة البحث عن السلام. التصريحات الأميركية وتلك الصادرة عن الدول دائمة العضوية أظهرت أن غوتيريش يملك تفويضاً كاملاً في هذا السياق. السبب الثاني تعبير «التحالف العربي» وبوضوح عن دعمه لحل سياسي في اليمن وفق المرجعيات المعتمدة سابقاً. ظهر ذلك جلياً حين توجه غوتيريش وجريفيثس بالشكر لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على انخراطه شخصياً في عملية تسهيل التوصل إلى اتفاق في السويد. السبب الثالث تزايد الشعور في بعض أوساط الحوثيين أن الدعم الإيراني لهم لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب التي انطلقت بفعل انقلابهم، وأن التوازنات العسكرية على الأرض لن تكون في صالحهم، كما أظهر الوضع حول الحديدة وفي مناطق أخرى.
لن تكون رحلة المفاوضات سهلة. ليس فقط لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، بل أيضاً لأن تركيبة اليمن صعبة كتضاريسه، ولأن الحرب أضافت مخاوف جديدة إلى مخاوف قديمة. كانت المحطة السويدية فرصة لانطلاق القطار. يرتكب الحوثيون خطأ فادحاً إن تعمدوا القفز منه. الوضع في المناطق التي يسيطرون عليها يشكل ضغطاً واضحاً عليهم. لا يكفي أن تسيطر على عاصمة أو منطقة أو ترسانة صواريخ. عليك أن تُؤمّن حاجات الناس. لقد انقضى زمن تغطية الوقائع المؤلمة بالشعارات القديمة.
واضح أن دول المنطقة تستشعر ضرورة الخروج من النزاعات التي لا تؤدي إلا إلى مضاعفة الفقر وعدم الاستقرار واستنزاف الموارد. يخسر كثيراً من يضيع فرصة السلام في اليمن وفرصة الاستقرار والازدهار في البحر الأحمر.
*رئيس تحرير «الشرق الأوسط»