> أبو شهاب عبدالله أحمد
عاد الرجل من السفر فشاهَد ذئبًا في حديقة بيته، يَلتحف الأسود ويُهرول باتجاه العَتمة، اقترَب من النافذة، فشمَّ رائحة الذئب تفوح منها، بل من البيت كلِّه، عندئذ أعلَنت الدنيا له عن حكاية جديدة.
وأنْكَرت الزوجة الموشومة بالخوف معرفتها بالذئب، أو حتى رؤيته وهي تُطأطِئ رأسها حينًا، وحيناً تنتظر السكاكين أو الأسلحة، ولأنه طوال حياته لا يفعل شيئًا قبل أن يُفكر آلاف المرات، لَم يستعمل الأسلحة، بل لَم يتفوَّه بكلمةٍ واحدة، دخَل إلى غرفة أولاده الثلاثة، فوجَدهم يَسبحون في الغطيط، ويحلمون بالهدايا المنتظرة.
ما إن قُرئت الوصيَّة، حتى انفتَحت الأفواه وتساءَلت الألْسِنة:
«ما هذه الوصيَّة الغريبة؟! كيف لأبٍ أن يزرع الفتنة بين أبنائه؟ يا له من رجلٍ غريب الأطوار!
أحمد يَرث ولا يَرث، مسعد يَرث ولا يَرث، محمود يَرث ولا يَرث.
كاد الإخوة الثلاثة يَمتطون مراكب الجنون وهم يَدورون حول بعضهم البعض، وكان كل واحد منهم يُريد أن يَحصل على ما فكَّر فيه.
قرَأ شيخ القرية الوصية مرَّات عدة، وبَقِي صامتًا، مُطرق الرأس، كأنه قد سقَط في امتحان صعبٍ، أصعب من الوصول إلى القمر، وحين فَشِل في حلِّ اللغز، طلَب منهم أن يأتوا إليه في مساء الغد.
اذهَب يا أحمد وافتَح قبر أبيك، وستَجد تحت رأسه ورقةً، وعندما تقرَأها ستَعرف سببَ كتابته هذه الوصيَّة.
انتفَض أحمد وأصابته رِعْدة:
ماذا تقول يا شيخ؟! لو ملَّكتني العالَم كلَّه، فلن أفتَح قبر أبي.
انتفَض الآخر وقال: إنه سيتنازل عن حصَّته، ولن يَفعل ما يطلب منه.
اجْلِس، صرَخ به الشيخ، ثم الْتَفَت إلى مَن حوله:
حين كتَب الأب وصيَّته، لَم يكن يَعرف مَنْ مِن هؤلاء من أولاده ومِن لحمه ودمه. وارتفَعت الأصوات مُتعجِّبة، وكان صوت محمود يرتفع بشكل غريبٍ ويحتجُ ويُهدِّد.
هل كان الذئب ينهش لَحمه ويحوِّل نقاءَه إلى ماءٍ عَكِرٍ؟ أم أنه أرادَ أن يَسرق شيئًا من أملاكه الكثيرة؟
كم هو مؤلِم هذا الشك الجاثم في الصدر! هذا النصل المغروز في القلب، إنه يَمضغ الصمت ولا يعلم كيف يصحو؟ وكيف ينام؟ مع كل صحوة يتحالف مع الهمس، يُجالس شياطين سلاحها الخراب والعذاب، يُحاورها وتُحاوره، ويظلّ الحزن يأخذه من تيه إلى تيهٍ، ثم يُلقي به في حقول البكاء... ليموت كمدا وتحت رأسه وصية..
«ما هذه الوصيَّة الغريبة؟! كيف لأبٍ أن يزرع الفتنة بين أبنائه؟ يا له من رجلٍ غريب الأطوار!
أحمد يَرث ولا يَرث، مسعد يَرث ولا يَرث، محمود يَرث ولا يَرث.
هذه كانت وصيَّة الأب.
انتهَت المعركة الكلاميَّة التي دامَت أيَّامًا، فاجتمَع الثلاثة - وهم مِن أمرهم في حيرة وخوفٍ وقلقٍ - للتشاوُر فيما هم فاعلون، وبعد أخْذ وردٍّ، أجمَعوا على رأي عمَدوا إلى تنفيذه في الحال.
في المساء جمَع الشيخ مِن حوله بعضَ رجال القرية؛ ليكونوا شهودًا على ما سيحصل، وما إن وصَل الثلاثة وأخَذوا مكانًا لهم، حتى الْتَفَت الشيخ إلى الابن الكبير وقال بلهجة صارمة:
انتفَض أحمد وأصابته رِعْدة:
ماذا تقول يا شيخ؟! لو ملَّكتني العالَم كلَّه، فلن أفتَح قبر أبي.
اذهَب أنت يا مسعد، قالها الشيخ بهدوءٍ.
سأذهَب أنا وأفتَحه، نعم، سأفتَح القبر، ماذا في ذلك؟ قالها محمود وهو يهم بالخروج.
حين كتَب الأب وصيَّته، لَم يكن يَعرف مَنْ مِن هؤلاء من أولاده ومِن لحمه ودمه. وارتفَعت الأصوات مُتعجِّبة، وكان صوت محمود يرتفع بشكل غريبٍ ويحتجُ ويُهدِّد.