> إعداد/ د. ياسر عمر الهتاري

من طفل عليل لا يقوى على التعليم إلى مخترع قاد الثورة الصناعية في العالم

لم يكن هذا الطفل يتمتع بصحة جيدة، إضافة إلى أنه كان يعاني من مشاكل في أسنانه، كما أنه كان مصاباً بالشقيقة، ولهذا لم يكن قادراً على الالتحاق بالمدرسة بشكل منتظم ومستمر، فتحمل والداه مسؤولية تعليمه في المنزل، فعلمته أمه القراءة بينما علمه والده الحساب، أحب اللعب بالأدوات وتصميم النماذج، فأصبح الرجل الذي حول عالمنا من الزراعة إلى الصناعة، أنه الطفل جيمس وات المولود في 19 يناير 1736 في اسكتلندا.

وعندما أصبح هذا الطفل في سن المراهقة تعرضت أسرته لنكسة مالية، إذ خسر والده أمواله بسبب مشاكل اقتصادية، وتوفيت والدته في نفس الفترة، ولم يتمكن من الالتحاق بالدراسة الجامعية، فقرر جيمس وات أن يبحث عن عمل وتمكن من الحصول على وظيفة صانع معدات، وكانت بداية الأمر في لندن؛ حيث تفوق في مجال صناعة المعدات وتميز عن أمثاله من الصانعين بحرفيته وجودة أعماله، ولهذا السبب فإنه قد تمكن بعد عام واحد فقط من الحصول على وظيفة في جامعة جلاسكو لتصليح المعدات الخاصة بقسم علم الفلك.
جيمس وات
جيمس وات


لم يلتحق بالجامعة بسبب فقره فأصبح أكثر علماً من أساتذتها وطلابها

لاحظ أساتذة قسم الفلك براعة جيمس وات في تصليح الأدوات والمعدات، فعرضوا عليه أن يقيم معملاً خاصاً به والبقاء فيه بشكل دائم، فعرفوا قيمة هذا الشاب الذي يعمل معهم حين اكتشفوا أنه يملك من العلم ما يملكونه هم مع أنه لم يجلس قط في حياته في أي محاضرة جامعية، أما طلاب قسم الفيزياء والرياضيات فقد أصابتهم الدهشة من هذا الشاب الذي اكتشفوا أنه يعلم في تخصصهم أكثر مما يعملون، وهو الذي ويا للعجب لم يلتحق ولم يجلس قط في أية محاضرة جامعية، كما أنه كان قد درس وأجاد اللغتين الإيطالية والألمانية حتى يتمكن من قراءة العديد من الكتب والأبحاث العلمية الأجنبية.

صادف ذات يوم أن طَلب أحد أساتذة الجامعة، التي كان يعمل بها جيمس وات في تصليح المعدات والأدوات، طلب منه أن يصلح محرك (نيوكوم) البخاري ليستخدمه في شرح إحدى المحاضرات للطلاب، عمل وات على إصلاحه إلا أنه كان معجباً بتفاصيل هذا المحرك وبالوظائف التي يمكن أن يؤديها، إلا أن جيمس وات رأى أن هناك قصوراً في محرك (نيوكوم) يؤدي إلى استهلاكه لقدر كبير من الطاقة كي يتحرك، فبدأ جيمس وات على الفور في التخطيط والعمل على تصميم وبناء محرك بخاري بعد أن أدرك المشكلة في محرك (نيوكوم)، وبعد تجارب ومحاولات واخفاقات لمدة عامين متتاليين تمكن في عام 1765 من بناء محركه البخاري الخاص، وتمكن من تسجيله في براءات الاختراع في سنة 1769، وكانت هذه براءة اختراع لأحد أهم الإنجازات في التاريخ البشري، وطوال الخمسين عاماً الماضية لهذا التاريخ كانت تُستخدَم في بريطانيا محركات (نيوكوم) البخارية ولم يتوصل أحد طوال هذه الفترة إلى سبيل لتطويرها.
محرك نيوكوم البخاري
محرك نيوكوم البخاري

وكان جيمس وات قد وجد أن العيب في محركات (نيوكوم) يكمن في أنه يجب تبريد الأسطوانات بالمياه قبل تسخينها من جديد حتى تعمل على توليد البخار مرة أخرى، وهكذا تتكرر العملية طوال فترة عمل محرك (نيوكوم)، وهو ما يؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من وقود الفحم لأجل عملية التسخين المتكررة، وأيضاً مستهلكة لكميات كبيرة من مياه التبريد، وكانت هذه مشكلة مزعجة ومكلفة عند تشغيل المحرك لفترات طويلة، فكان ما عمله جيمس وات هو أنه وضع في تصميمه على تخصيص حيز منفصل في محركه لتوليد البخار؛ بحيث يعمل على تبريد الهواء ذاتياً بعد دفع الهواء الساخن والتخلص منه بدلاً من تبريد الأسطوانات بالماء وإعادة تسخينها مجدداً، وهكذا تبقى الأسطوانة ساخنة طوال الوقت، وهكذا كانت فكرة التصميم الجديد لجيمس وات مصادفة حين طلب منه ذلك الأستاذ أن يصلح محرك (نيوكوم) البخاري، ذلك الأستاذ كان البروفيسور (جون أندرسون)، فكانت المفارقة في هذا الجزء وهذه اللحظة الحاسمة من التاريخ، وهي اللحظة التي عجز فيها بروفيسور في الجامعة من إصلاح محرك عاطل، بينما من أصلحه وابتكر للعالم حياة جديدة كان مجرد عامل إصلاحات بسيط في نفس الجامعة، وهنا أصبحت الثورة الصناعية على وشك أن تطل برأسها نحو العالم بسبب محرك عاطل.
احد المحركات البخارية التي انتجتها مصانع وات - بولتون 1788 - برمنجهام
احد المحركات البخارية التي انتجتها مصانع وات - بولتون 1788 - برمنجهام

اشترى رجل المال (ماثيو بولتون) حقوق الملكية الخاصة لمحرك جيمس وات البخاري، وبعد إحدى عشر عاماً من صناعته لأول محرك بخاري انتشرت محركاته بشكل واسع، فاستخدمت بادئ الأمر في مضخات المياه في مناجم التعدين، ولم تلبث أن توسعت في استخدامات وتطبيقات أخرى، فاجتاحت الثورة الصناعية المملكة المتحدة، وبدأ كل من جيمس وات وماثيو بولتون بتصدير المحرك البخاري إلى جميع أنحاء العالم.

توفي جيمس وات في 25 أغسطس عام 1819 في منزله في إنجلترا عن عمر 83 سنة، وحتى خلال فترة شيخوخته لم تفتر همته أو قدرته في البحث والتجارب؛ بل بقيت قدراته العقلية تعمل بشكل ممتاز وبنفس الحدة تقريباً التي عُهِد بها.
توفي جيمس وات؛ لكن محركاته التي اخترعها لا زالت قلوبها تنبض بالحياة وتضخ الطاقة وتزرع القوة في كل أنحاء العالم، نجحت محركات وات نجاحاً باهراً وأصبح الطلب عليها مهولاً من كافة أنحاء العالم، وحصل وات على براءة اختراع أخرى لمحركه البخاري، وذلك بعد تطويره حين جعله يقوم بحركة دائرية بدلاً من الحركة العمودية، فوجدت له استخدامات أخرى عديدة في تحريك السفن والقطارات، ولم تتوقف صناعة السفن التي تعمل بالمحركات البخارية إلا في عام 1984، والتي كانت آخرها السفينة (سكاي وندر)، كما كان جيمس وات أول من استخدم وحدة القياس (حصان) لقياس القدرة للمحركات.
قاطرة تعمل بمحرك بخاري بحركة دائرية لجيمس وات
قاطرة تعمل بمحرك بخاري بحركة دائرية لجيمس وات

وبحلول القرن التاسع عشر وبعد اكتشاف الكهرباء استخدمت محركات وات ذات الحركة الدائرية في تشغيل مولدات الطاقة الكهربائية على نطاق واسع حتى الآن، وتم إدخال العديد من التعديلات عليها وبما يتناسب مع كل استخدام جديد لها، ومن التعديلات المهمة كان ما عمله المهندس (ريتشارد تريفيتيك) إذ عمل على بناء محرك بخاري أصغر حجماً وأخف وزناً من محرك جيمس وات لكنه يعمل بالمبدأ ذاته، وهو ما كان مصدر إلهام وخيال كبيرين لوضعها على القاطرات البخارية، كما عمل المهندس (روبرت فولتون) لأول مرة على إضافة المحرك البخاري على السفن وتحريكها به بدلاً من استخدام طاقة الرياح، وذلك بعد أن كان المهندس (دابان) قد وضع تصميماً لوضعها على سفينة، وكانت السفينة (سافانا) أول سفينة تعبر المحيط الأطلنطي مستخدمة في فترات كبيرة من رحلتها المحركات البخارية إلى جانب الأشرعة، وهنا كانت بداية النهاية للأشرعة التي لم تصمد كثيراً أمام المحركات البخارية.
نموذج المهندس (دابان) لمحرك بخاري على سفينة
نموذج المهندس (دابان) لمحرك بخاري على سفينة

وعلى ما يبدو فإن العالم كان فقط ينتظر لحظة استيقاظ ذهني لشخص بعبقرية جيمس وات ليبدأ هذا العالم انطلاقته ويتحرك على اليابسة والماء، وبهذا يكون جيمس وات بأعماله وإنجازاته سبباً في أن يتمكن الإنسان من أن ينتج طاقة أكبر وأقوى وأسرع من طاقة البشر والحيوان، ليندفع العالم بعد ذلك دون توقف ودونما سيطرة، وحتى يومنا هذا نحو ما عُرف لاحقاً بالثورة الصناعية، التي ما كانت لتحدث بدون وجود القوة المحركة التي أمنت القدرة الكافية واللازمة لها، وتكريماً له سُميَت وحدة القياس لهذه القدرة باسمه (وات) فأصبح بذلك اسمه مطبوعاً أو محفوراً أو ناتئاً أو ملتصقاً على كل جهاز كهربائي في كل منزل حول العالم بدون استثناء، حتى وإن وُجِد هذا الجهاز في أدغال أفريقيا والأمازون، إنه اسم لا مفر من كتابته في وسائل حياتنا لشخص يستحق أن نتذكره عند كل كبسة زر تولد لنا القدرة والطاقة، وهنا تظهر مفارقة أخرى كبرى من الصعب فهمها، فمن اخترع للبشرية أعظم قوة محركة هو طفل لم يقوَ على الحركة إلى المدرسة، فكان جيمس وات بأعماله واحداً ممن غيروا وجه التاريخ.
(سكاي وندر) أخر سفينة ركاب تعمل بالبخار تم بنائها في 1984 وتعمل لصالح شركة (بالمانتر) للرحلات البحرية
(سكاي وندر) أخر سفينة ركاب تعمل بالبخار تم بنائها في 1984 وتعمل لصالح شركة (بالمانتر) للرحلات البحرية