> تقرير/ خالد بلحاج

​في محافظة حضرموت، يجد الزائر والباحث الكثير مما تمتاز به هذه المحافظة، وفي مقدمتها الموروث الشعبي، لاسيما المرتبط بالحياة المعيشية والاجتماعية للأفراد والجماعات، ومن هذا الموروث الحضاري “الحرف التقليدية” كصناعة الخزف والمصوغات الذهبية والجلود والخوص والحدادة والنورة، وغيرها من المهن التي دعت الضرورة إلى مزاولتها، حسب احتياجات أفراد المجتمع لها، وهذه الحرف الشعبية ليست امتداداً للصناعات التقليدية القديمة في المجتمع الحضرمي وحسب، ولكنها ما زالت تحتفظ بأصالتها وطابعها المحلي المتميز، على الرغم من دخول منتجات صناعية حديثه، زاحمت تلك الصناعات والحرف الشعبية، بل تكاد تقضي عليها، وقديماً قالوا: “لا تعرف الشيء إلا بعد فقده”، هذه الحرف ما يزال البعض يمتهنها كمصدر للرزق ولتأمين لقمة العيش الحلال، أو كتقليد أو موروث يُحتفظ به للأجيال القادمة لعل وعسى أن يسيروا على خطى أجدادهم وآبائهم، لتكون خير معين لهم في أحلك الظروف، وهنا نتناول إحدى تلك المهن التي ما زالت تقاوم الزمن وهي “صناعة الخوص” وعندها نستعرض قصة إنسان بسيط عصامي، ارتبط بها وارتبطت به، منذ أكثر من عشرين عاماً، اتخذ منها ملاذاً من الفقر، وتأميناً لمصدر رزقه وقوت أبنائه.. إنه الحرفي أحمد عمر أحمد باسعد، من أبناء منطقة صيف مديرية دوعن، الذي تشتهر بمثل هذه الحرف، وأجرينا معه هذا اللقاء القصيرة.


مهنة متوارثة
ويقول باسعد، ذو الثمانية والأربعين عاماً، إنه امتهن هذه الحرفة التي ورثها من الآباء والأجداد، منذ أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، بعد أن ترك دراسته مكرهاً ليؤمن لأسرته لقمة العيش، الذي سيكسبه من صناعة يديه، وكذلك ليحافظ على هذه المهنة الشريفة كونها موروثاً شعبياً ارتبط به الأجداد منذ القدم.
ويواصل حديثه، وهو في غاية البهجة والسرور لزيارتنا له في دكانه المتواضع، الذي يزاول فيه مهنته، إضافة إلى بيع بعض الحلويات والمكسرات، يضيف: “لقد أحببت هذه الحرفة وأتقنت صناعتها، والحمد لله راض بما تدره علي من دخل”.


أبرز المنتجات
وعن أهم منتجاته من صناعة الخوص يقول باسعد لـ “الأيام”: “أنا اهتم بصناعة الأطباق والغطيان وشباك النوافذ المصنوعة من سعف النخيل، وهناك إقبال كبير عليها، على الرغم من أننا في عصر التطور، إلا أن هناك أناساً يعشقون هذه الصناعات، فمنهم من يستخدمها لحفظ الخبز بالنسبة للأطباق والغطيان، ومنهم من يحتفظ بها كتراث في منزله، أما الشبابيك فهي تستخدم في نوافذ المنازل، وما يزال كثير من الناس يستخدمونها هنا في دوعن، ويتم أيضاً بيع المنتجات في مناطق وادي حضرموت في سيئون والقطن وشبام والمكلا، بالإضافة إلى تصديرها إلى السعودية، حيث إن الحضارم يهتمون بها كثيراً”.

ولفت باسعد إلى أن المدة الزمنية التي تستغرقها صناعة “طبق أو غطاء” تستغرق ما بين يومين إلى ثلاثة أيام، حيث تبدأ عملية الصناعة بعد تحضير المادة الخام، وهي سعف النخيل، ومن ثم تقطيعها وتخميرها أو غمرها في الماء، وبعد ذلك يتم شطفه، ومن ثم تلوينه، وبعد ذلك نقوم بـ “سفوفته” واستكماله، وصولاً لعرضه للبيع أو إرساله حسب طلب الزبائن بملغ (350) ريالاً للطبق الواحد، وفي العادة هذه الحرفة تحتاج لصبر، وهي في المقابل مهنة عظيمة توارثناها أباً عن جد، ونحن نحاول تشجيع الأبناء والأجيال القادمة للاهتمام بها وتعريفهم وترغيبهم بها، كما نشجعهم، في الوقت ذاته، على التعليم.

وطالب الحرفي أحمد باسعد الجهات المعنية بخدمة التراث بالاهتمام به، وتشجيع كل من يمارسون هذه الحرف والمهن، للحفاظ على هذا الموروث التاريخي العظيم، الذي ارتبط به الحضارم منذ القدم.


صمود وصبر
وقال في ختام حديثه لـ “الأيام”: “في الماضي كان السياح الأجانب يأتوننا ويأخذون ويقتنون هذه الصناعات، أما الآن فقد اختفوا، ولم يعد أحد يزرنا، ومع هذا ما تزال هذه الحرف وغيرها موجودة ويزاولها الكثيرون، ولكنهم بحاجة إلى لفتة كريمة من الجهات المعنية، شاكراً “الأيام” على زيارتها وتسليط الضوء على هذه المهنة والحرفة الشعبية، متعشماً بإيصال معاناته والحرفيين الآخرين إلى الجهات المعنية بالتراث، للحفاظ على هذه الحرف قبل اندثارها”.

واستطاع هذا الحرفي باسعد، أحد الرجال البسطاء من أبناء مديرية دوعن بصموده وصبره، أن يصنع بيديه تراثاً وإرثاً يربطنا جميعاً بتاريخنا الحضاري، وكأنه كتاب من كتب التاريخ والثقافة.