قال الله تعالى: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ" ( البقرة : 17)
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي
في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم
بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في
حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما
قال : ( رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت )[
الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : (
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : ( مثل
الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) [ الجمعة : 5
] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال
بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين
كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع ، في قوله تعالى : ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان ( وتركهم في ظلمات ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، ( لا يبصرون ) لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها.
يقال : مثل ومثل ومثيل -
أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى :( وتلك الأمثال نضربها للناس وما
يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت : 43 ] .
وتقدير هذا المثل : أن الله
سبحانه ، شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى
العمى ، بمن استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن
يمينه وشماله ، وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ،
لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان
ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء
المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى ، واستحبابهم الغي على الرشد
. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في
غير هذا الموضع ، والله أعلم .
وزعم ابن جرير أن المضروب
لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : ( ومن
الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة : 8 ] .
والصواب
: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم
إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير - رحمه
الله - هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع
على قلوبهم فهم لا يفقهون ) [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ]
هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم
أعقبهم ظلمات يوم القيامة .
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع ، في قوله تعالى : ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان ( وتركهم في ظلمات ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، ( لا يبصرون ) لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها.