رمضان شهر الروح والسمو بها.. فالإنسان - بحكم طبيعته المزدوجة - يسمو تارة
ويهبط أخرى , يحلق حيناً في آفاق روحية عليا , كأنه ملَك ذو جناح , ويتمرغ
حيناً في أوحال المادة والشهوة كأنه حيوان من ذوات الأربع .
فلا عجب أن نراه يعثر كما ينهض , ويخطئ كما يصيب , ويعصي كما يطيع . ولكن الله جعل له أكثر من مصفاة وأكثر من مطهرة يغتسل بها من أدرانه ويتطهر بها من خطاياه , يخرج منها نظيفاً نقياً , كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
يقول
الحديث النبوي الذي رواه مسلم في صحيحه : (الصلوات الخمس , والجمعة إلى
الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) .
فالصلوات الخمسة هي ميزان اليوم , والجمعة ميزان الأسبوع , ورمضان ميزان العام .
إن الإسلام رسالة توحيد وتحرير , جاءت تحرر الناس من عبادة
ما سوى الله , من عبادة الطبيعة ، وعبادة الأشخاص , وعبادة الأوهام ,
وعبادة الأهواء , وتوجيه العبادة إلى إله واحد , هو الرب الأعلى (الذي خلق
فسوى . والذي قدر فهدى).
بهذا ينتصر الإنسان , ويكون
الصيام له جنة ووقاية , وإلا كان صياماً صورياً لا يُعِد صاحبه - في
الدنيا - لتقوى , ولا يحقق - في الآخرة - لأهله مغفرة ولا رحمة ولا عتقاً
من النار , وفي الحديث : (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع) (4) ، ( ومن
لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (5) .
ونسأل الله أن يجعل من رمضان موسماً لتجديد إيماننا ، وإحياء قلوبنا ، ويجعل غدنا خيراً من يومنا , وأن يجعل حظنا من هذا الشهر المغفرة والرحمة والعتق من النار .
فلا عجب أن نراه يعثر كما ينهض , ويخطئ كما يصيب , ويعصي كما يطيع . ولكن الله جعل له أكثر من مصفاة وأكثر من مطهرة يغتسل بها من أدرانه ويتطهر بها من خطاياه , يخرج منها نظيفاً نقياً , كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
فهناك مصفاة يومية هي الصلوات الخمس.. وهناك مصفاة أسبوعية وهي صلاة الجمعة.. وهناك مصفاة سنوية وهي صيام رمضان وقيامه.
فمن لم
تطهره الصلوات اليومية , ولا الجمعة الأسبوعية , كانت لديه فرصة في رمضان
ليتطهر فيها بحسن الصيام والقيام , ويحوز مغفرة الله تعالى لما فرط منه .
فإن فاتته هذه الفرصة فهو الشقي المحروم . ورد أن جبريل عرض للنبي - صلى
الله عليه وسلم - وهو يرتقي المنبر فقال : (بعُد من أدرك رمضان فلم يغفر
له) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمين ! فيا بؤس من دعا عليه أمين
الوحي وأمن عليه خاتم الرسل (1) .
ورمضان
شهر لانتصار الإنسان : انتصار إرادته على شهوته , وعقله على هواه . على أن
أعظم ما يكون انتصار الإنسان حين يفعل الخير , ويعمل الصالحات , أداء
للواجب , وابتغاء رضوان الله وحده . فهذه هي ذروة الإخلاص والتجرد , وهي
ذروة السمو الإنساني .
والصوم الذي يأمر به الإسلام ويثيب عليه , ويفتح
لصاحبه أبواب المغفرة والجنة , ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ومباشرة
النساء , فمن الناس من يصوم حِمية من مرض , أو سعياً إلى صحة , أو
احتجاجاً على مظلمة , أو خضوعاً لمراسيم , أو اتباعاً لعادة , أو نحو ذلك
من البواعث والأغراض , ولكن هذا كله لا يقيم له الإسلام وزناً . والصوم
المعتبر في ميزان الإسلام هو الذي يقوم به صاحبه (إيماناً واحتساباً) ، أي
تصديقاً بوعد الله , وطلباً لما عند الله . وكذلك القيام ، ولهذا حرص
الرسول على ذكر هذه العبادة حين قال : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر
له ما تقدم من ذنبه , من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه) (2) .
وهكذا كان الصوم عبادة خالصة موجهة إلى الله
وحده . وفي هذا جاء الحديث عن الله عز وجل : (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ,
فإنه لي وأنا أجزي به . يدع الطعام من أجلي , ويدع الشراب من أجلي , ويدع
لذته من أجلي ، ويدع زوجته من أجلي) (3) .
وعلامة الصوم المقبول - الذي
هو ثمرة الإيمان والإخلاص لله - أن يكف الصائم لسانه عن الزور واللغو ,
ويده عن الأذى , وجوارحه كلها عن المعصية , وأن يصوم ظاهره وباطنه عما يسخط
الله تعالى , وأن يدفع السيئة بالحسنة , وإذا جهل عليه أحد أو سابه أو
قاتله قال بلسانه وبقلبه : اللهم إني صائم !
ونسأل الله أن يجعل من رمضان موسماً لتجديد إيماننا ، وإحياء قلوبنا ، ويجعل غدنا خيراً من يومنا , وأن يجعل حظنا من هذا الشهر المغفرة والرحمة والعتق من النار .