> إعداد/ هاشم الخضر السيد

الإسلام هو دين الله تعالى ودين الحقّ، بُعث به النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ليتتمم ما بُعث به الرّسل من قبله، إلّا أنّ ما يميّز رسالة الإسلام عن سائر الشّرائع السماويّة أنّها لم تُبعث لقومٍ دون قوم؛ إنّما كانت رسالة للعالمين، فبعد أن بُعث الصادق الأمين مُبشراً ومُنذراً لشبه جزيرة العرب التي تعدّ من أحبّ البِقاع إليه فأخرجه أهلها منها بعد أن اشتدّ أذى كفّار قريش عليه، فخرج منها متّخذاً من المدينة المنوّرة دار الخلافة الإسلاميّة، فلم يطل الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- الغياب عن مكّة؛ فعاد إليها فاتحاً باكياً متواضعاً لنصر الله تعالى، فأصبحت مكّة المكرّمة مُنطلقاً للفتوحات الإسلاميّة، وبعد وفاة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- سار على نهجه الصّحابة الكرام رضي الله عنهم، ففتحت البلاد تلو البلاد، والأمصار تلو الأمصار، ففتح الصّحابة -رضي الله عنهم- الروم وبلاد فارس، ولحقت بالفرس والروم أشدّ الخسائر، فيصدقهم الله وعده وتسّطع شمس الإسلام من كلّ الأفق، وفيما يأتي بيان مُجريات معركة المدائن.

الوعد بفتح الروم وبلاد فارس
جاء عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنّه قال: "ما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ".

لماذا سميت بالمدائن؟
«المدائن» هي عاصمة ملك فارس وكانت مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيرهم، وسماها العرب المدائن لأنها سبع مدائن واسمها عند الفرنج (اكتيزيفون)، بينها وبين بغداد 25 ميلاً. وبها طاق كسرى أو إيوان كسرى وهو قصر من قصور كِسرى أنوشروان الذي تهدم وبقيت آثاره في مدينة المدائن.

فبعد شهرين من انتصار الجيش الإسلامي بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على جيش الفرس في موقعة القادسية، أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بالسير نحو عاصمة الفرس «المدائن» وفتحها، وعلى الفور توجه سعد وجيشه نحو المدائن، وفي طريقه إليها قابل بعض جيوش الفرس، فقاتلهم، وأقام فترة في بابل، ثم أرسل أحد قواده فاستطاع فتح المدائن الغربية، ثم سار هو إلى المدائن الشرقية التي يوجد فيها إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 متراً أو ما يعادل نحو عشرة طوابق، وكان العرب في ذلك الوقت يسكنون الخيام أو في بيت من طابق واحد مبني من طوب لبن وقبة الإيوان البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار، لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئاً وسط الجهة الأخرى، فصاح ضرار بن الخطاب: «الله أكبر. أبيض كسرى. هذا وعد الله ورسوله»، وتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق. وكبر وكبر الناس معه فكانوا كلما وصلت طائفة كبروا ثم نزل على المدينة.

الهروب
وعبر سعد رضي الله عنه نهر دجلة من أضيق مكان فيه بنصيحة سلمان الفارسي على خيولهم، فلما رأى الفرس ذلك هربوا، وكان الملك في مقدمة الهاربين وأخذوا ما استطاعوا من متاع، ودخل سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى، وكان قبل أيام قليلة يهدد المسلمين ويتوعدهم من قصره الأبيض مقر ملك الأكاسرة، الذي كان آية من آيات الفخامة والبهاء، وعند دخوله إيوان كسرى تلا سعد قول الله تعالى: "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين"، «الدخان: الآيات 25 - 29». وقال ابن الحاجب: صلى سعد رضي الله عنه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينها، وكان في الإيوان تماثيل وصور فتركها على حالها، وتحول من الإيوان بعد ثلاثة أيام إلى القصر الأبيض.

حصار
وكان القصر الأبيض الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم يشتركوا في القتال، يعز عليهم أن يفارقوه، وحاصر المسلمون القصر حصاراً بسيطاً؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره، لكن بداخله بعض الفرس، فيذهب إليهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، ويقول لهم: أنا منكم، اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منا لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. ويعطيهم مهلةً ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث يخرج هؤلاء الفرس، ويقبلون دفع الجزية للمسلمين، فيدخل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد فتح القصر، ويتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر ذهبوا لزيارة كسرى منذ فترة يدعونه إلى الإسلام، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من صفر سنة 16هـ، وكان المسلمون قد أَذَّنوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ مَقْدِم خالد بن الوليد رضي الله عنه سنة 12هـ حتى تلك اللحظة لم يصلوا الجمعة، وإنما كانوا يصلون دائماً الظهر قصراً؛ لأنهم كانوا دائماً على سفر، ولكن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيماً، وأن المدائن هي البلد الذي سيتخذه المسلمون مقاماً بعد أن كسرت شوكة الفرس.

بشرى النصر
وغنم المسلمون غنائم كثيرة في فتح المدائن، منها كنوز كسرى وتاجه وثيابه وأساوره، وأخذ سراقة بن مالك سواري كسرى اللذين وعده بهما النبي، وكان سهم الفارس 12 ألف درهم، وأرسل سعد إلى عمر بن الخطاب رسولاً يبشره بالنصر وبما حازوه من غنائم، ويطلب منه السماح لهم بمواصلة الفتح في بلاد فارس، لكنْ عمر رفض ذلك، وقال له: وددت لو أن بيننا وبينهم سداً من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، حسبنا من الأرض السواد -أي أرض العراق- إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.

وكان الفلاحون الموجودون في بلاد فارس قد عانوا كثيراً من الظلم والجبروت الفارسي الذي أرهقهم بالضرائب الكثيرة وغيرها، وعندما جاء المسلمون فاتحين لبلادهم دخلوا في دين الإسلام بعد أن أدركوا البون الشاسع في المعاملة بين المسلمين والفرس، وبعضهم قبل دفع الضرائب أو الجزية الإسلامية كانت أقل كثيراً من الضرائب الفارسية عن رضا ورغبة، فهم قد استمتعوا بهذه الجزية؛ لأنهم في مقابلها تمتعوا بميزات كثيرة، فهم لا يشتركون في جيش المسلمين ليحاربوا، وعلى المسلمين حمايتهم ضد أي اعتداء، ومن لم يستطع دفع الجزية سقطت عنه، وليس هذا فحسب، بل قد يكفله المسلمون من بيت مالهم، ويُعفَى منها أيضاً العجائزُ والنساء والصبيان، وهذه هي سماحة الإسلام وعدله.

سوارا كسرى
 أعزّ الله -تعالى- المؤمنين به والمتوكلين عليه والواثقين بنصر الله -تعالى- بالفتح المبين، حيث قال الله تعالى: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"، فظفر المسلمون بمغانم كثيرة بفتح المدائن، من الذّهب والفضّة والثّياب، فأُرسل بها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، حيث ضمّت الغنائم سواري كسرى، فأعطى الفاروق السوارين لسراقة بن مالك؛ وفاءً بوعد الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- لسراقة عندما هاجر مع صاحبه أبي بكر الصّديق -رضي الله عنه- فراراً من أذى قريش، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "الحمد لله؛ سوارا كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك"، ويُطبق الحزن والبكاء على عمر ويقول: "اللهمّ إنّك منعتَ هذا رسولك ونبيّك، وكان أحبّ إليك منّي، وأكرمَ عليك منّي، ومنعته أبا بكر، وكان أحبّ إليك مني، وأكرم عليك منّي، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي".​