> محمد أبو الفضل

أعادت الخلافات الجديدة بين رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت، وخصمه ومعارضه رياك المشار، أزمة الترتيبات الأمنية إلى الواجهة، حيث رفض الثاني المشاركة في حكومة انتقالية مع حلول 12 نوفمبر المقبل قبل التفاهم وإيجاد تسوية نهائية لهذه القضية، وطالب بتأجيل الحكومة ستة أشهر أخرى، وهو ما يضع البلاد أمام أزمة أكبر، إذ باتت أعين المجتمع الدولي مصوّبة عليها، أملا في البحث عن مسار نهائي لتطبيق اتفاق السلام بين الغريمين.

لم يدرك كل من كير ومشار، الأهمية الرمزية التي ينطوي عليها قيام مجلس الأمن الدولي بعقد اجتماع له في 20 أكتوبر الجاري في جوبا، من زاوية أن المنطقة مقبلة على استحقاقات صعبة للسلام، تستوجب تقديم تنازلات من جميع الأطراف، لإنهاء الصراعات المتفاقمة وتسهيل التسويات السياسية وتنفيذها على الأرض بما يسمح بتوفير الأمن والاستقرار.

مضى كلّ طرف في طريقه لتأمين مستقبله وفريقه المسلح، وكأن دروس السنوات الماضية ليست كافية لاستيعاب وجود رغبة إقليمية ودولية لإطفاء الحرائق التقليدية، وقراءة ما يجري من تطورات في دول مجاورة، تسعى لغلق صفحات الاقتتال ووقف التوترات، تمهيدا للدخول في مرحلة جديدة عمادها السلام وقوامها التنمية المشتركة.

تثير الترتيبات الأمنية وآلياتها مشكلات بين جميع الأطراف المتخاصمة التي تصل إلى اتفاق سلام عقب فترة مضنية من المعارك، بعد تضخّم نفوذ الحركات المسلحة وعناصرها في الدولة التي يتقاتلون فيها مع حكومات أو جماعات أخرى، ولا يعرف هؤلاء سوى لغة الصراعات، وهو ما تكرر في دولة السودان، فقد دخل السلام المطلوب مرحلة تشبه الولادة القيصرية بكل ما تحتاجه من مهارة جراحية لإنقاذ السودان.

قطعت الجبهة الثورية، الممثّلة حاليا لخمسة فصائل مسلحة في دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، شوطا مهمّا في مسار السلام مع السلطة الانتقالية في الخرطوم، ووقّعا اتفاق مبادئ في جوبا تطرّق إلى العناوين العريضة في القضايا الخلافية، ومضت الأمور بشكل سلس، غير أنها لم تخلُ من عقبات أدت إلى تأجيل المفاوضات لنحو شهر.

ظهرت الترتيبات الأمنية بين الجانبين كمسألة تحتاج إلى مزيد من الحوارات والمناقشات لحلّ الكثير من المشكلات المتعلّقة بها، فالحرب الأهلية الممتدة سنوات طويلة، قبل وبعد انفصال جنوب السودان، خلّفت وراءها ميراثا من الجيوش والعناصر المسلحة من الضروري التوصل إلى وسيلة تنهي ظاهرة تهدد أي بلد يضع أقدامه على طريق السلام.

ما حدث في السودان وجنوب السودان تكرر في كل الدول التي شهدت صراعات مسلحة، فعندما تتوقف المدافع عن الضجيج ويجلس الجميع إلى الطاولة تقفز على الفور قضية الترتيبات الأمنية التي تجعل صيغة السلام مستقرة، أو متحركة ويمكن أن تندلع مرة أخرى، ما يتوقّف على التفاهمات الدقيقة التي تتناول تفصيليا بنود السلام وتطبيقها حرفيا، وعدم ترك مساحة لمراوغات جهات مسلحة متضررة منه، وغالبا ما يكون هناك خاسرون وطامعون وراغبون في الحفاظ على مكاسب جنوها خلال الحروب.

تمثل الترتيبات الأمنية التالية لوقف الصراعات أزمة عميقة لكل الدول التي حاولت طيّ هذه الصفحة القاتمة، فإذا كانت الحرب مدمرة ويحتاج قرار وقفها لإرادة قوية، فإن مرحلة السلام أشدّ قسوة وبحاجة إلى إرادة أكبر، خاصة لدى الأطراف التي تملك مخزونا واسعا ونوعيا من الأسلحة والمعدّات العسكرية، مكّنت أصحابها من تحقيق مكاسب يصعب التخلّي عنها.

ولذلك يصمّم الطرف المنتصر أن تكون ترتيبات ما بعد الحرب تميل إلى صالحه، وتضمن الحفاظ على عناصره من خلال استيعابها داخل مؤسسات نظامية، أو توفير ملاذات تضمن لهم حياة آمنة خالية من الملاحقات أو المحاسبات القانونية.

تمتدّ بعض النزاعات فترات طويلة من الاقتتال بسبب عجز أطرافها عن الوصول إلى حلّ مناسب لمصير الحركات المسلحة، أو دخول عملية تحديد المصير في نفق مسدود، فيجد الجميع في الحرب حلا مناسبا إلى حين تنضج الأجواء الدافعة إلى القبول بسلام كامل أو ناقص، وتلعب توازنات القوى دورا حيويا في تحديد شكل الترتيبات الأمنية اللاحقة عندما تصمت انفجارات القنابل، لأنها تميل بالطبع إلى صالح الأطراف الرابحة وتجبر الخاسرين على التقيّد بمكوّنات السلام وفقا للصيغة التي يضعها المنتصرون.

تتعاظم الأزمة عندما تكون جميع الأطراف متساوية في القوة أو الهشاشة. ففي دولة جنوب السودان أجبرت الحرب الأهلية الفريقين (كير ومشار) على الرضوخ لفكرة السلام التي تم التوصل لها في أديس أبابا منذ حوالي أربع سنوات، الأمر الذي فشل عند التطبيق الأول.

وجرى توقيع اتفاق سلام تفصيلي منذ نحو عام، ولا زال متعثرا، لأن النتيجة التي أفرزتها سنوات الحرب لم تكن حاسمة لصالح أحد الطرفين وواجهت تفسيرات مختلفة، وما نجم من وفاق نسبي وليد معادلة راعت عدم الخسارة، وهو ما جعل كل طرف يبدو منتصرا لدى أنصاره، ويستلزم تعامله على هذا الأساس عند إقرار الترتيبات الأمنية بشكل نهائي.

شيء قريب من ذلك يحدث في السودان حاليا، فعندما سقط نظام الرئيس عمر حسن البشير بفعل ثورة شعبية شاركت فيها الحركات المسلحة، بصورة غير مباشرة، خرجت القوى الثورية منتصرة، ممثلة في تحالف الحرية والتغيير ومن بين مكوّناته تحالف نداء السودان الذي يضمّ الجبهة الثورية الجامعة للحركات المسلحة.
وفّر هذا الانتصار لقيادات الفصائل المسلحة قوة سياسية وعسكرية مزدوجة، جعلتها تصرّ على التوصل إلى ترتيبات عادلة في المناطق التي شهدت نزاعات مضنية، ولم تضم مكوّنات السلطة الانتقالية طرفا مسلحا حتى الآن.

حرصت الجبهة الثورية على الاحتفاظ بمسافة بعيدا عن الجسم السياسي للحكومة وقوى الحرية والتغيير حتى تحسم الكثير من القضايا العالقة والشائكة، وفي مقدمتها الترتيبات الأمينة التي يمكن أن تتحوّل إلى منغّص وتهدّد مستقبل السلام الشامل في السودان، ما لم يتم تدارك الخلافات خلال المهلة الممنوحة للعودة إلى طاولة المفاوضات.

مرّت القارة الأفريقية بحروب أهلية كثيرة ونماذج عديدة لحل أزمة الترتيبات الأمنية في الحالة التي تخرج فيها الأطراف المتصارعة بنتيجة تبدو قريبة من شعار "لا غالب ولا مغلوب"، لأن الصيغة النمطية الخاصة بوجود منتصر ومهزوم، ينهي فيها الطرف الأول عملية السلام بالضربة القاضية وبالطريقة والتفاصيل التي يريدها، بينما تكابد الثانية طويلا لفك عقد الأزمة، كما هو حاصل في السودان وجنوب السودان.

هناك مسارات كثيرة تدخلها الترتيبات الأمنية إذا كانت المعادلة متقاربة أو المسافة الفاصلة بين الجهات المنخرطة فيها ليست كبيرة من حيث القدرات العسكرية، أبرزها استيعاب بعض العناصر البشرية في مؤسستي الجيش والشرطة وفاقيا، بعد عملية فرز محترفة، والتسريح بإحسان ودفع تعويضات مناسبة لكل من شاركوا في الصراعات.

وتتزايد الأهمية حسب الدور، فإذا كان هؤلاء من المنتصرين يصبح التعويض سخيا، والعكس إذا كانوا من المنكسرين وقبلوا بالسلام، وربما لا يخلو الأمر من تصفية ومحاكمات لكل من ثبت تورطه في ارتكاب جرائم تسيء إلى السلام المنشود.
من حسن حظ دولتي السودان وجنوب السودان أن لديهما مؤسسة عسكرية صامدة، والحركات المسلحة فيهما لا تزال تحافظ على القوام الوطني، وابتعدت غالبيتها عن الحرب بالوكالة التي راجت إقليميا، بما يتيح الفرصة للتفاهم حول ترتيبات أمنية تراعي المصالح العليا للبلاد والعباد، قبل أن يتحوّل السلام إلى رماد.

"العرب"