> حافظ الشجيفي

هناك صلة وثيقة ما بين واقع الشعوب ونخبها السياسية والأساليب الفكرية والثقافية التي تتبعها لتجاوز هذا الواقع من جهة، وتصورها لذاتها وتاريخها من جهة أخرى، فبعض الشعوب مقيدة بتاريخها القديم لدرجة المراوحة في الماضي على حساب الحاضر، وشعوب أخرى مشدودة للحاضر أكثر من انشدادها للماضي، والفيصل بين الحالتين لا يعود لاختلاف الشعوب من حيث عراقة وأمجاد ماضيها، بل لعقلانية وواقعية النخب السياسية والاجتماعية الراهنة التي تقودها وقدرتها على التعاطي مع الواقع وتغييره.

فبعد تاريخ اليوم سيصبح الراهن ماضيا أو تاريخا مدونا أو شفهيا، وستتساءل الأجيال مَن صنع هذا التاريخ السيئ؟ حينها ستواجههم مقولة (إن الشعوب هي التي تصنع تاريخها) وهي مقولة صحيحة. فنحن اليوم نصنع المستقبل السيئ الذي سنعيش وسيعيش فيه أبناؤنا وأحفادنا من بعدنا، كما أننا اليوم نتحمل وزر تصرفات السلف ووزر ماض سياسي واجتماعي ما زال حاضرا فينا بكل تفاصيله ويشكل قيدا على حركة نهضتنا وتقدمنا.

أن تصنع الشعوب تاريخها يعني أنها تصنع حاضرها ومستقبل أبنائها، فالحاضر هو مستقبل الماضي كما أنه ماضي المستقبل... أن تصنع الشعوب تاريخها ينطوي على حكم إيجابي وحكم سلبي في نفس الوقت على الشعوب من حيث مسؤوليتها عن تاريخها وبالتالي مصيرها.. حكما إيجابيا إن أخذت الشعوب بناصية الأمور وكانت المبادِرة إلى تحديد مصيرها وبناء حضارتها وقطعت الطريق عن الغير للتدخل في شؤونها الداخلية، في هذه الحالة ستصنع الشعوب حاضرا زاهرا وتاريخا مشرفا للأجيال القادمة، أيضا تتضمن المقولة حكما سلبيا على الشعوب، ذلك أن الشعوب الضعيفة والمنقسمة على ذاتها وفاقدة الإرادة تفتح الطريق أمام الغير ليوجهوا أمورها ويحددوا مصيرها، وبالتالي يصنعوا حاضرها وتاريخها، وفي هذه الحالة أيضا فإن الشعوب وخصوصا نخبها السياسية والثقافية تتحمل مسؤولية هذا التاريخ الذي سينسب لها حتى وإن صنعه لها الآخرون.

ومن هنا فإن أمام الشعب اليمني، شمالا وجنوبا، الآن طريقين واضحين، وهذان الطريقان مرتبطان بالموقف الجمعي مما يدور في الشمال والجنوب بشكل متداخل وبطريقة يصعب تفكيكها، ولعل الصعوبة تكمن في أن الحرب اندلعت في الوقت الذي كان يفترض أن يحل فيه السلام أو في اللحظة التي كان يفترض أن تعالج فيها مختلف القضايا المصيرية شمالا وجنوبا ثم استمرت دون توقف حتى الآن بسبب ابتعاد الشعب عن المشاركة في إخمادها، وبالتالي نعتقد أن أمام الشعبين في الشمال والجنوب مسؤولية تاريخية في اللحظة الراهنة، تتمثل في تلمس المسار الذي يحدد اتجاه طريق التحول الذي سيسيرون عليه، وفي اتخاذ الخيارات المناسبة لكل منهما، وربما من المفيد التوضيح أن تحديد الخيار المناسب سيحدد موقع كل من الشعبين وسيحدد مستقبل اليمن شمالا وجنوبا لسنوات طويلة قادمة، فإما أن نساهم جميعاً في ترسيخ حالة التآكل التدريجي التي دفعنا إليها، أو أن نرسم مسار خروج من الأزمة نحو يمن اتحادي قادر على مواجهة التحديات الراهنة دون القفز على حقائق الواقع وتجليات التعامل مع متطلبات المرحلة، وتكمن الصعوبة بعد اتخاذ القرار المناسب في إيجاد تلك الطفرة التي تقودنا للخروج من دوامة التآكل الحالية، والتي نعتقد أنها ليست بالبساطة التي يتوقعها البعض، فالخشية من أننا كلما تأخرنا في اتخاذ القرارات الصحيحة والصائبة، يصبح الخروج أصعب، وذلك في ضوء وجود نافذة زمنية محدودة، وما لم نتمكن من تجاوز تحدياتنا والعبور إلى مرحلة ما بعد الحرب، فنعتقد حينها أننا سنصل سويا إلى منطقة الخطر التي لا تحمد عقباها.

كل يمني حر، شماليا كان أو جنوبيا، يجب أن يكرس همه لوقف نزيف الدماء في اللحظة الراهنة، كل يمني حر يجب أن يؤكد في هذه اللحظة حرصه على سلامة الأرض والإنسان وعلى مستقبل الشعب في الشمال والجنوب عبر وقف المؤامرة التي تحاك ضده شمالا وجنوبا، والمطلوب من الجميع - وأولهم الشرعية وثانيهم الانتقالي، وثالثهم الشعب، ورابعهم كل القوى الوطنية الحية على الساحة - أن يعملوا بمسؤولية عالية لوقفها وتجاوز مخلفاتها وآثارها.. وعندما نتحدث عن وقف الحرب فإننا نتحدث عن أي حل يقود إلى إرساء السلام في ربوع اليمن.

إن زمن قذف الآخرين بتهم الخيانة والعمالة يجب أن ينتهي، ويجب أن يتم احترام كل الآراء ما دامت تهدف إلى إيقاف الحرب ومواصلة السير نحو وطن حر كريم يقبل الآخر ويحترم رؤاه، لأن من يطمح إلى الانتهاء من زمن الإقصاء والاستفراد عليه ألا يقصي أحدا ولا يصادر رأيا، فإذا كنا اليوم نتصارع على الثوري، والوطني، والمتخاذل، ونحن ما زلنا بعيدا من الحل وبعيدا من السلام وبعيدا من الوطن، فماذا سيكون مصير هذا الوطن غدا حينما تنتهي الحرب ويسود السلام وتبدأ عملية توزيع المهام والمناصب؟ وأي توافق سيبنى بيننا فيما نحن لا نتقبل بعضنا البعض؟ ثم أية دولة تلك التي لم نتفق بعد على شكلها وطرق الوصول إليها ومبادئ دستورها القادم؟

باتفاق جدة، وهو حل جزئي لمشكلة تاريخية كبيرة، سنبرهن للآخرين قبل أن نبرهن لأنفسنا عن أي حكمة تلك التي وصفنا بها رسول العزة والتكريم محمد بن عبدالله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بالخير والهداية للأمة، وسنقطع بذلك الطريق أمامهم للتدخل في شؤوننا كما سنسقط عليهم مبررات وذرائع قيامهم بالمهمة بدلا منا، وكي لا تظل دعوة الأجداد حين دعوا الله على أنفسهم أن يباعد بينهم وبين أسفارهم كما باعد بين المشرق والمغرب، لعنة ماضية فينا وسنة مكتوبة علينا جيلا بعد جيل... فدعونا هذه المرة نتبرأ من ظلمهم ونتحرر من وبال دعوتهم..

حتى يكون بإمكان المواطن أن يحمل الأمانة الملقاة على عاتقه لا بد أن يكون ابن المرحلة التاريخية. يعني يجب أن يكون من الناس ومعبرا عنهم أو عن الأغلبية منهم، وليس ساقطا علينا من كوكب آخر أو من الملائكة. الخبيث لا يقيم في شعب من الطيبين، والطيب لا يعمر في شعب من الخبيثين، فلا بد من أن نرتقي ونسمو إلى الدرجة التي نتطلع إلى أن تكون عليها قادتنا، وهذه هي مهمة أصحاب الوعي والفكر الذين يسبقون زمانهم ويمهدون الطريق نحو وطن يستوعب الجميع.

إن مجرد عدم قبول الآخر يعتبر بحد ذاته جريمة، فإذا كنا اليوم لا نقبل ببعضنا البعض، فما الفرق بيننا وبين السلطات المستبدة التي لطالما عانينا من ظلمها؟ وكيف سنتقبل غدا كل هؤلاء الصامتين والجالسين في بيوتهم والمحايدين؟ بل حتى بعض المستفيدين من الحرب، هل سنبيدهم جميعا، أم نعزلهم جميعا ونقيم الحجر عليهم، ونحاكمهم كلهم ونطبق عليهم عقوبة الإعدام؟ ولو أن المسألة تدار بهذه الطريقة فأعتقد أن الشارع لن يكسب المعركة، وإن كسبها فستكون على سيل جارف من الدماء.

نحن في اليمن نعيش فوضى قيم عارمة.. المثقفون الحقيقيون أصبحوا قلة، وفي مجتمع يأكل بعضه بعضا.. بل ويريد البعض أن يتسلق باسم الوطن وباسم النضال على الأكتاف، وهو يبحث له عن مكان تحت الشمس، فلا يجده أبدا، كونه لا يؤمن بالإنسان.. والإنسان في اليمن متنوع تنوع الأشجار فلا يمكن أن يعيش اليمن لا على فوهة بندقية، ولا في شريعة غاب، ولا على هامش حزب واحد، ولا في عرف مذهب واحد،

إن قياس حياة اليمنيين لا يمكنها أن تتم بمعزل عن اتساع الرؤية، وتمدن الفكر، وانفتاح الناس بعضها على الآخر، كي يتقبل اليمنيون بعضهم بعضا ولكي يتوصلوا إلى حلول ترضيهم جميعا. إن الحرية لا تعني الفوضى والشتيمة كما يفهمها البعض، والنقد لا يعني التنكيل وتشويه سمعة الناس وكيل الاتهامات الباطلة لهم، بل هو المواجهة والتصويب والضمير الحي.. كما أن الأخلاق ليست العادات السقيمة والانغلاق في الأقفاص أو خلف الجدران المعتمة، الأخلاق هي كيف تتعامل مع الناس.. كيف تخاطبهم، وكيف تتصرف معهم، وكيف تحترم الآخر وإرادته وخياراته.. وكيف تكون أمينا على الأرواح.. وكيف تصون القيم ومصالح الشعب.. وكيف تتعايش مع جيرانك بكل محبة... والإخلاص للوطن لا يعني مهاجمة الآخرين وتخوينهم، بل يعني أن لا تسيئ التصرف، ولا تزرع الفتنة، ولا تثير الأحقاد، ولا تعلن عن روح الانتقام ضد الناس الأبرياء، بل ضد كل المدانين بجريمة أو جنحة ليحاكموا ويقتص منهم.

ولعل من أسوأ ما تتربى عليه الأجيال أن تمتلئ عقولها بالتحيزات وتتشبع بالأهواء.. وتتربى على هوس معين، أو فوضى لا أخلاقية، في حين يتطلب منا الأمر عكس ذلك كله، وخصوصا في اليمن الذي يعيش اليوم صراعا عميقا بين تمرد الأهواء والعواطف وبين تحكيم العقل.. بين الحيادية وبين التعصبات، بين الوطنية وبين الانتماءات القبلية والمناطقية، بين مشروع حضاري وبين حروب كهنوتية. إن الفجيعة تكمن ببعض المروجين السياسيين وأنصاف المثقفين الذين ينطلقون من الأبواب القبلية أو المناطقية أو المصلحية المقيتة ضد أناس أحرار.. إن المتعصبين إلى رأي معين أو ثقافة معينة أو مصلحة ذاتية هم بعيدون عن روح الحريات ومعانيها، بعيدون عن المرونة، لا يعرفون إلا رؤيتهم الضيقة جدا للحياة والأمور، فالسلام عندهم كارثة! وهي رؤية لا تقتصر على الناس العاديين بل تنتقل وبفجاجة لا نظير لها إلى بعض المثقفين والساسة والنخب المتماهية مع هذا ضد ذاك أو ذاك ضد هذا.

في مثل هذه المرحلة من الفوضى العارمة التي أدى إليها هذا التداخل المتناقض تتكشف حقائق لم تكن ظاهرة على السطح سابقا بفعل الحرمان والفقر والتهميش ومدى الظلم ومساوئ الماضي، في حين تحولت الآن الأوضاع من تكوين مناخات لحريات صحية إلى فوضى قيمية وكتابات لا أخلاقية وتسفيه مصلحي.. إنهم منقسمون بشراسة ليس إزاء تاريخهم بل إزاء وجودهم، وكأن أحدهم يريد محو الآخر وإنهاء وجوده.. جماعة ترى في المجتمع كل القتل والعنف وحب الدماء حتى وصل الأمر أن يوصف كل اليمنيين بأوصاف رديئة وأنهم بحاجة إلى فاسد أو مستبد ليحكمهم، وآخرون يمجدون ويتفاخرون بهذا الشعب العظيم الذي لا يمكن أن نجد مثله أبدا في كل الدنيا وكل الوجود.