> عبد الرحمن مراد

يقال إن السياسة فن الممكن، وقيل إنه لا ثوابت في السياسة، فالفعل السياسي دوماً حيث تكون المصلحة، فالعداوات فيها مرحلية والصداقات والتحالفات كذلك مرحلية، والملاحظ أن أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم وأعداء الأمس هم أصدقاء اليوم، وهكذا هي السياسة دائمة الحركة ودائمة التجدد في التفاعل والتعاطي مع مفردات الواقع وتجلياته المرحلية.

والاشتغال السياسي في اليمن بدأ يخرج من أطره التقليدية التي ظلت تحكم سيطرتها عليه لعقود من الزمن، فالتحالفات بين المتناقضات -كتجربة سياسية هندسها السياسي والمفكر جار الله عمر مطلع الألفية الجديدة- كانت تجربة مميزة حاولت إذابة الجليد بين نقيضين متنافرين هما الحزب الاشتراكي، والتجمع اليمني للإصلاح، وقد ترك التقارب ظلالاً جميلاً في تصحيح التصورات الخاطئة وأحدث قدراً من التجرد في الخطاب السياسي للإخوان، وقدراً من التوازن في الموقف، فالحوار تصحيح مستمر للتصورات الخاطئة عن بعضنا وهي تجربة يمكنها أن تتكرر في واقعنا، فالسياسية إدارة توازنات وليست إدارة عداوات.

فالتحالفات - إذا تمت - ربما تبدد المخاوف التي تهدد نسيج الوحدة الوطنية التي نقرأ في تفاصيل الواقع مؤشرات تجعلنا في خوف شديد من القادم الذي يحمل مقومات التشظي أكثر من مقومات التوحيد.

مثل هذه الإشارات التي تمر في تفاصيل اللحظة يتوجب الوقوف أمامها بقدر كافٍ من الموضوعية، فالإقصاء عبر التاريخ عواقبه وخيمة وغير آمنة في المستقبل، وحين نجهد أنفسنا في التفكير بلغة الأنا المضللة فنحن بالتأكيد نتجاوز قانون التاريخ، وفي ظني أننا أمام لحظة انتقال نأمل أن تكون حقيقية يتوجب فيها التأسيس لقيم أخلاقية بديلة للإقصاء، تحضر فيها مفردات الحرية والتعايش وتقدير الرموز، وأرباب التاريخ الوطني، نجعل لهم قدرهم ومنزلتهم التي تليق بهم ونترك للتاريخ محاكمتهم، ومحاكمة مراحلهم التاريخية المختلفة، فالقوة -وهي نسبية ومائلة- إذا منحتك سحرها وظللك بريقها عن استبصار الحقائق فلن تدرك ذلك إلا بعد أن تسلبك هي محاسن نفسها وتهبها غيرك، لذلك فالعاقل من يتعظ بعبر التاريخ ويحاول أن يضبط إيقاع المستقبل بما يخفف من حدة الصراع بين القوى ليؤسس لقيم إنسانية ومدنية بديلة لقيم الفناء والإقصاء.

وأكاد أعجب من أولئك الذين ينادون بالمدنيّة وبالتعايش وبالشراكة الوطنية وبالقيم البديلة ثم أسخر من تصريحاتهم ومواقفهم التي تقدمهم كمثالٍ أسوأ من نماذج التاريخ المختلفة.

القضية الوطنية والمشكلة الأكبر في اليمن ليست في النظام الذي نادينا بسقوطه.. بل تكمن في الإشكالات التاريخية التي تحول دون إحداث انتقال في لحظتنا الوطنية، لأن الإشكالات أعادت إنتاج نفسها في نماذج وقوى تقليدية فاعلة كانت ومازالت تعيق عجلة التطور في اليمن ولن يتحقق التحديث والانتقال ولا الدولة المدنية الحديثة ولا الحكم الرشيد ما لم تحدث ثورة حقيقية في البنى الثقافية والاجتماعية ونعمل جاهدين على تطوير المعيارية الاجتماعية الثابتة حتى تتناغم مع العصر والتمدن والتحديث، فالقضية الوطنية ليست في الهدم ولا في التفكيك بل في الوعي بالحالة من جوانبها المتعددة، فالذين ذهبوا إلى ساحات الاعتصام أغرتهم الانفعالات فتصوروا أن الذي يحدث ثورة ولم يكن يدور في خلدهم أنهم يصنعون أزمة تهدد اليمن في وحدته واستقراره، ذلك أن الثائر الحقيقي يجب أن يمتلك وعياً قادراً على تشخيص الواقع ويملك مشروعاً بديلاً لما هو كائن، أما الاستبدال فهو انقلاب تجاوزه منطق التاريخ.

وقراءة الموقف السياسي لبعض القوى السياسية من الواقع يحيلنا إلى مرجعيتين أحدهما تقدمية ثورية تجاوزها منطق العصر، والأخرى لم تحسن القراءة والاستنباط لعبر التاريخ، ومواقف رموز المرجعية الدينية، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) في فتح مكة لم يكن في غلظة أخلاقهم ولو كان مثلهم في نابية ألفاظهم وغلظة الموقف والأخلاق لتفرق الناس من حوله، وكلتا المرجعيتين كما نلحظ لم ترق إلى مستوى شعار الدولة المدنية المرفوع، كما أن اشتغالها على المنظومة الثقافية التاريخية يتناقض مع استحقاقات اللحظة الثورية التي عملت على الهدم وليس لديها رؤية واضحة للبناء.

فالذين ذهبوا إلى خيار الثورة وليس خيار الإصلاحات في اليمن في زمن الربيع العربي ذهبوا إلى فراغ من فراغ، فقد أعلنوا سقوط الأيديولوجيا، ولذلك تاهوا وتاهت الثورة في فراغ المصالح الإقليمية والدولية وفقدت الثورة معناها بفقدانها الفكرة وتحولت إلى حركة اجتماعية تشيع الفوضى وتهدم ولكنها لا تبني.

نحن بحاجة إلى ثورة حقيقية تستهدف البعد الثقافي والبعد الاجتماعي من أجل إحداث انتقال فيهما، وبالتالي نستطيع تحقيق التطور في البنية السياسية ونحدث ثورة حقيقية في واقع الناس وحياتهم المعيشية، وقبل كل ذلك علينا أن نفهم فهما جيدا أن السياسة إدارة مصالح وليست إدارة عداوات، ومن خلال هذا الفهم نؤسس لقيم جديدة تستوعب ولا تلغي وتعترف ولا تنفي، فالآخر موجود وأنت موجود، وكل فرد أو كيان يقدم نفسه كما يحب أن يراه الآخر والتاريخ مرآة للكل وهو الفيصل في التمايز، وقول ما يجب أن يقال عن الكل من الكل.

وخلاصة ما يمكن أن يقال، إن بقاء الحال من المحال، وعلينا أن نعامل الماضي بنفس القيمة الأخلاقية التي نريد المستقبل أن يعاملنا بها.