تقتضي الضرورة تفتيت ركام ثقافة الأمس المتكلّسة في جدران ذاكرتنا ووعينا، ولأنّ الزّمن طوى مسافات فلكيّة بمقاييس اللحظة والعصر، وهي جرفت أحداثاً وموروثاً وقوالب فكر وممارسات.. إلخ، بل غيّرت عوالم من حولنا جذرياً، حتى شكل العلاقات الإنسانية صبغتها بألوان طيف مغاير لما عهدناه، لكن نحن ما انفككنا نلقي مرساتنا الثقيلة في نفس البقعة وأسلوب التّفكير والخطاب.
نحن نستجر الماضي بطريقة عرض المَلهاة التي تهز الكوامن لكنها تدعو للبكاء، وهي ملهاة أصلاً، كأن يقول أحدنا مثلاً: كان كيلو البطاطا بـ 3 شلنات أيام الحزب، وكان وكان، نستعيد ذلك مصحوباً بزفرات الحسرة من دواخلنا على زمن كان، مع أن مفردات ومعطيات وقائعه مغايرة تماماً لما نحن فيه اللحظة، ولذلك لا يخجل البعض من أن يبدي حزنه على رحيل بريطانيا.
يمكن أن يكون هذا مقبولاً من عامّي، لكن يصدمك أن نفس المنطق لدى كثيرين، بما فيهم مؤثرون في محيطنا، ومن هؤلاء من يطالبك بالصّمت وأنت تبدي اعتراضاً على هذا المنطق الأعرج، أو أن يمارس المنافحة السخيفة بمنطقه الأرعن في جروبات وسائل التواصل، وما أكثر هذا، أو حتى يحظر عليك نشر رؤاك وانتقاداتك الواقعية بهذا الصّدد، أو أن تسرد نقداً موضوعياً غايته التقويم وإصلاح الاعوجاج أو النواقص، فهذا يذكرني بحقبة السبعينات والثمانينات، وفيها ألّهنا الحزب والسلطة، واعتبرناهما فوق كل نقد، وكان ما كان بحقّنا.
قراءة مقيتة للنسيج البشري الجنوبي، خصوصاً للجنوبيين الذين يذودون عن جنوبنا ويستميتون لأجله وقضيته، ولماذا يحدث مثل هذا؟ لأن هؤلاء يشعرون بأن الجنوب مجرد إقطاعية خاصة بهم وحدهم، مع أنهم لم يصنعوا شيئاً في مسار تاريخ الجنوب وتطوره وثقافته وفنونه وعمرانه وتفرده سابقاً عن كل جزيرتنا العربية.