بين الإرث الأندلسي ومجاورة أميركا اللاتينية ومواجهة النرجسية الأوروبية.
للوهلة الأولى يمنح عنوان كتاب "لهذا نكتب الروايات" انطباعاً بأن مضمونه متخصص في تقنيات كتابة الرواية، غير أن الكتاب يقدم في الحقيقة ما هو أكثر وأشمل من هذا الأمر بكثير، أعد الكتاب وترجمه الكاتب العراقي محسن الرملي، وصادر عن منشورات تكوين- الكويت ودار الرافدين.
يضم الكتاب ستة حوارات أجراها الرملي إضافة إلى عشر شهادات مع كتاب إسبانيين معاصرين، ولا يقدم وصفة عن كتابة الرواية، أو خريطة لوضع الأدب الإسباني المعاصر فقط، بل يمتد مضمونه ليقدم مشهداً بانورامياً لثقافة لها أبعاد عديدة.
فالثقافة الإسبانية تعد حاضنة للغة الإسبانية التي لا يكتب بها الإسبان فقط بل تشمل قارة أميركا اللاتينية، من جهة، والتي تعد، من جهة أخرى، عنصراً رئيساً من عناصر الثقافة الأوروبية المعاصرة، إضافة إلى أنها تتميز عن غيرها من كل أطراف الثقافة الأوروبية بامتزاجها، ولو على مستوى تاريخي، بجانب من الثقافة العربية الإسلامية بسبب التراث الأندلسي.
ومن لا يألفون الثقافة الإسبانية سيتبينون كيف يتأمل الكاتب الإسباني الروايات المكتوبة بلغته ولكن في ثقافات أخرى مثل ثقافة أميركا اللاتينية، أو كيف أن الذهنية النقدية الإسبانية حين تقدم نقداً للذات فهي تقدم نقداً للثقافة الأوروبية ومركزيتها في الوقت نفسه، ويتبين أيضاً أن العلاقة مع الثقافة العربية علاقة شائكة، تتراوح بين الانحياز لاعتبارها جزءاً من الرافد الثقافي الإسباني لدى البعض، ومحاولات تهميشها ونفيها من المكون الثقافي الإسباني عند البعض الآخر.
ومثل هذه المفارقات أيضاً تكشف عن التنوع الكبير في الثقافة المقصودة من جهة.، وتلفت الانتباه إلى بعض الفوارق الشخصية بين الكُتّذاب الذين قد يأتي رفضهم العنصرية متقدماً حتى على رفض الاستبداد، كما هو موقف الكاتب خوان غويتيسولو الذي يقول "أشعر بالنفور من الأساليب الاستبدادية ولغة القوميين المتطرفين، إنها أشياء لا أحتملها، فأنا أعيش بعيداً من الصراع السياسي وهو لا يهمني على الإطلاق، ولكن الشيء الذي يهزني هو العنصرية والتمييز العرقي، لأنه بالنسبة إليَّ أسوأ شيء. فالتعسف السياسي يمكن أن يزول ويندحر، لكن الإحساس العنصري يصعب محوه. لقد قلت دائماً إن الاعتداء على شخص بريء بسبب لون جلده أو تجاعيد شعره يبدو لي أسوأ من سجن شخص يكافح من أجل أفكار سياسية".
وهي إشارة ضمنية إلى نقد ذاتي لثقافة لديها نوع من العنصرية المبطنة أو المكشوفة، إضافة طبعاً إلى الكثير من النقد الموجه إلى ما أسفرت عنه الرأسمالية من أخطار تجاه الثقافة نفسها، أو تجاه الطبيعة والبشر. وهذا ما يمنح الكتاب أفقاً إنسانياً يخص الجميع حتى خارج الثقافة الإسبانية.
ونرى تفسيراً لفكرة الأدب الأندلسي المعاصر حين يقول رافائيل ريج في موضوع آخر "أعتقد أن الإرث الأندلسي متجذر في أسسنا الأدبية أكثر مما يراد الاعتراف به أكاديمياً ومؤسسياً. واهتمامي الأكبر هو ضمن مجال الثقافة الأندلسية. فمن أكثر الأعمال التي أفتخر بها والتي كانت هاجساً لي، منذ كنت مراهقاً وقرأت مقالات ومختارات للشعراء الأندلسيين للبروفيسور غارثيا غوميث هو الكتاب الذي أنجزته عن الشعر الأندلسي".
كل هؤلاء الكتاب يجمعون على موقف شديد الإيجابية تجاه الثقافة العربية، وبعضهم ينظر إلى توجهات الغرب تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها وصمة عار كما يقول رافائيل ريج، وغالبهم يرون أن الثقافة الإسبانية تعاني الأزمة الأوروبية التي ترى العرب في الوقت الراهن بطريقة محددة ومتحيزة ويدينونها.
لكن كل تلك القضايا الخاصة بالعرب تأتي كتفاصيل منثورة في مواضع عديدة، لأن الكتاب في مجمله يهتم أكثر بالرواية في إسبانيا وبالمشهد الأدبي الإسباني إجمالاً: التيارات الأدبية، القضايا والموضوعات التي يهتم الكتاب بالتعبير عنها، الأفكار الجديدة، المقارنة بين ما يكتبه الإسبان وما يكتبه أدباء أميركا اللاتينية، علاقة الكاتب الإسباني بالناشر في بلاده... ومن المفارقات أن يطلع القارئ على كثير من الملاحظات التي تذكرنا بالأزمة المعقدة بين غالب الكتاب العرب والناشرين، إضافة إلى قضايا تتعلق بالتكنولوجيا وتأثيرها في الأدب والرواية.
واللافت أن غالب الشهادات المتضمنة، إضافة إلى الحوارات، تضم نوعاً من النقد الذاتي العنيف، إما لموضوعات الرواية الإسبانية لدى البعض، أو لسيادة الروايات التقليدية القائمة على الحبكة والحكاية على حساب النصوص التجريبية والحديثة والمركبة، وبعضها يتناول أيضاً أزمات الهوية الإسبانية الأوروبية، مع اعتبار أن جانباً كبيراً من الشهادات يتحدث عن إسبانيا بوصفها جزءاً من الهوية الأوروبية. ولعل شهادة الكاتب مانويل مونتالبان (1939-2003) واحدة من أعمق بل وأبرز الشهادات تناولاً لهذه القضية التي يرى أنها مادة في العلاقة مع الرواية "إن أوروبا لديها مشكلة خطيرة في الهوية، بحيث أعتقد أن هناك عدداً محدوداً جداً من الناس يعرفون ما هي أوروبا بالضبط، وأنا شخصياً واحد من هؤلاء". وإضافة إلى تناوله قضية الشمال والجنوب في أوروبا واعتباره أنه "في أرضية المعرفة التقليدية الأوروبية فإن فكرة أوروبا لا وجود لها تقريباً، إنها ما زالت ترزح تحت الأحكام المسبقة الكامنة في الذاكرة الجمعية".
ولعل الصعوبة التي قد تواجه القارئ العربي تكمن في صعوبة بعض أسماء الكتاب الإسبان، إلا أن محسن الرملي قدم كلاً منهم بشكل واف، وتوصيفاً لأهم سماتهم الأدبية والتيارات الأدبية التي ينتمي إليها كل منهم، إضافة إلى عناوين أعمالهم والإشارة إلى مضامين الكثير منها.
ولكن مع القراءة الثانية للكتاب يجد القارئ نفسه متآلفاً مع الأسماء، خصوصاً بعد التعرف إلى أفكار أصحابها، حول ما أشرت إليه، وقبل ذلك وبعده، حول أهمية كتابة الرواية، بحسب الروائي خافيير غارثيا سانجث، الذي ينادي بالسرد الإسباني الجديد، والذي أجاب عن سؤال طرحه بنفسه هو لماذا أكتب الرواية، وقدم عديداً من الأسباب وبينها هذا السبب الذي أختتم به هذا المقال الذي لا يمكن أن يغني عن قراءة هذا الكتاب المهم.
يقول سانجث "أكتب الرواية لأنني ما زلت أعتبر نفسي يسارياً، ولم أترك قط ضرورة الثورة أو في الأقل في تغيير جذري، لا تسألوني من أي نوع، لأني لا أقدر على تفسيره، لعلني أتحدث عن الثورة من باب معرفة الشخص بنفسه إلى أقصى حد، وعلى رغم ذلك يحترم الآخرين ويحبهم".
"اندبندنت عربية"
للوهلة الأولى يمنح عنوان كتاب "لهذا نكتب الروايات" انطباعاً بأن مضمونه متخصص في تقنيات كتابة الرواية، غير أن الكتاب يقدم في الحقيقة ما هو أكثر وأشمل من هذا الأمر بكثير، أعد الكتاب وترجمه الكاتب العراقي محسن الرملي، وصادر عن منشورات تكوين- الكويت ودار الرافدين.
يضم الكتاب ستة حوارات أجراها الرملي إضافة إلى عشر شهادات مع كتاب إسبانيين معاصرين، ولا يقدم وصفة عن كتابة الرواية، أو خريطة لوضع الأدب الإسباني المعاصر فقط، بل يمتد مضمونه ليقدم مشهداً بانورامياً لثقافة لها أبعاد عديدة.
فالثقافة الإسبانية تعد حاضنة للغة الإسبانية التي لا يكتب بها الإسبان فقط بل تشمل قارة أميركا اللاتينية، من جهة، والتي تعد، من جهة أخرى، عنصراً رئيساً من عناصر الثقافة الأوروبية المعاصرة، إضافة إلى أنها تتميز عن غيرها من كل أطراف الثقافة الأوروبية بامتزاجها، ولو على مستوى تاريخي، بجانب من الثقافة العربية الإسلامية بسبب التراث الأندلسي.
- نظرة جديدة
ومن لا يألفون الثقافة الإسبانية سيتبينون كيف يتأمل الكاتب الإسباني الروايات المكتوبة بلغته ولكن في ثقافات أخرى مثل ثقافة أميركا اللاتينية، أو كيف أن الذهنية النقدية الإسبانية حين تقدم نقداً للذات فهي تقدم نقداً للثقافة الأوروبية ومركزيتها في الوقت نفسه، ويتبين أيضاً أن العلاقة مع الثقافة العربية علاقة شائكة، تتراوح بين الانحياز لاعتبارها جزءاً من الرافد الثقافي الإسباني لدى البعض، ومحاولات تهميشها ونفيها من المكون الثقافي الإسباني عند البعض الآخر.
ومثل هذه المفارقات أيضاً تكشف عن التنوع الكبير في الثقافة المقصودة من جهة.، وتلفت الانتباه إلى بعض الفوارق الشخصية بين الكُتّذاب الذين قد يأتي رفضهم العنصرية متقدماً حتى على رفض الاستبداد، كما هو موقف الكاتب خوان غويتيسولو الذي يقول "أشعر بالنفور من الأساليب الاستبدادية ولغة القوميين المتطرفين، إنها أشياء لا أحتملها، فأنا أعيش بعيداً من الصراع السياسي وهو لا يهمني على الإطلاق، ولكن الشيء الذي يهزني هو العنصرية والتمييز العرقي، لأنه بالنسبة إليَّ أسوأ شيء. فالتعسف السياسي يمكن أن يزول ويندحر، لكن الإحساس العنصري يصعب محوه. لقد قلت دائماً إن الاعتداء على شخص بريء بسبب لون جلده أو تجاعيد شعره يبدو لي أسوأ من سجن شخص يكافح من أجل أفكار سياسية".
وهي إشارة ضمنية إلى نقد ذاتي لثقافة لديها نوع من العنصرية المبطنة أو المكشوفة، إضافة طبعاً إلى الكثير من النقد الموجه إلى ما أسفرت عنه الرأسمالية من أخطار تجاه الثقافة نفسها، أو تجاه الطبيعة والبشر. وهذا ما يمنح الكتاب أفقاً إنسانياً يخص الجميع حتى خارج الثقافة الإسبانية.
- ذاكرة الأنلدس
ونرى تفسيراً لفكرة الأدب الأندلسي المعاصر حين يقول رافائيل ريج في موضوع آخر "أعتقد أن الإرث الأندلسي متجذر في أسسنا الأدبية أكثر مما يراد الاعتراف به أكاديمياً ومؤسسياً. واهتمامي الأكبر هو ضمن مجال الثقافة الأندلسية. فمن أكثر الأعمال التي أفتخر بها والتي كانت هاجساً لي، منذ كنت مراهقاً وقرأت مقالات ومختارات للشعراء الأندلسيين للبروفيسور غارثيا غوميث هو الكتاب الذي أنجزته عن الشعر الأندلسي".
- الثقافة العربية
كل هؤلاء الكتاب يجمعون على موقف شديد الإيجابية تجاه الثقافة العربية، وبعضهم ينظر إلى توجهات الغرب تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها وصمة عار كما يقول رافائيل ريج، وغالبهم يرون أن الثقافة الإسبانية تعاني الأزمة الأوروبية التي ترى العرب في الوقت الراهن بطريقة محددة ومتحيزة ويدينونها.
لكن كل تلك القضايا الخاصة بالعرب تأتي كتفاصيل منثورة في مواضع عديدة، لأن الكتاب في مجمله يهتم أكثر بالرواية في إسبانيا وبالمشهد الأدبي الإسباني إجمالاً: التيارات الأدبية، القضايا والموضوعات التي يهتم الكتاب بالتعبير عنها، الأفكار الجديدة، المقارنة بين ما يكتبه الإسبان وما يكتبه أدباء أميركا اللاتينية، علاقة الكاتب الإسباني بالناشر في بلاده... ومن المفارقات أن يطلع القارئ على كثير من الملاحظات التي تذكرنا بالأزمة المعقدة بين غالب الكتاب العرب والناشرين، إضافة إلى قضايا تتعلق بالتكنولوجيا وتأثيرها في الأدب والرواية.
واللافت أن غالب الشهادات المتضمنة، إضافة إلى الحوارات، تضم نوعاً من النقد الذاتي العنيف، إما لموضوعات الرواية الإسبانية لدى البعض، أو لسيادة الروايات التقليدية القائمة على الحبكة والحكاية على حساب النصوص التجريبية والحديثة والمركبة، وبعضها يتناول أيضاً أزمات الهوية الإسبانية الأوروبية، مع اعتبار أن جانباً كبيراً من الشهادات يتحدث عن إسبانيا بوصفها جزءاً من الهوية الأوروبية. ولعل شهادة الكاتب مانويل مونتالبان (1939-2003) واحدة من أعمق بل وأبرز الشهادات تناولاً لهذه القضية التي يرى أنها مادة في العلاقة مع الرواية "إن أوروبا لديها مشكلة خطيرة في الهوية، بحيث أعتقد أن هناك عدداً محدوداً جداً من الناس يعرفون ما هي أوروبا بالضبط، وأنا شخصياً واحد من هؤلاء". وإضافة إلى تناوله قضية الشمال والجنوب في أوروبا واعتباره أنه "في أرضية المعرفة التقليدية الأوروبية فإن فكرة أوروبا لا وجود لها تقريباً، إنها ما زالت ترزح تحت الأحكام المسبقة الكامنة في الذاكرة الجمعية".
ولعل الصعوبة التي قد تواجه القارئ العربي تكمن في صعوبة بعض أسماء الكتاب الإسبان، إلا أن محسن الرملي قدم كلاً منهم بشكل واف، وتوصيفاً لأهم سماتهم الأدبية والتيارات الأدبية التي ينتمي إليها كل منهم، إضافة إلى عناوين أعمالهم والإشارة إلى مضامين الكثير منها.
ولكن مع القراءة الثانية للكتاب يجد القارئ نفسه متآلفاً مع الأسماء، خصوصاً بعد التعرف إلى أفكار أصحابها، حول ما أشرت إليه، وقبل ذلك وبعده، حول أهمية كتابة الرواية، بحسب الروائي خافيير غارثيا سانجث، الذي ينادي بالسرد الإسباني الجديد، والذي أجاب عن سؤال طرحه بنفسه هو لماذا أكتب الرواية، وقدم عديداً من الأسباب وبينها هذا السبب الذي أختتم به هذا المقال الذي لا يمكن أن يغني عن قراءة هذا الكتاب المهم.
يقول سانجث "أكتب الرواية لأنني ما زلت أعتبر نفسي يسارياً، ولم أترك قط ضرورة الثورة أو في الأقل في تغيير جذري، لا تسألوني من أي نوع، لأني لا أقدر على تفسيره، لعلني أتحدث عن الثورة من باب معرفة الشخص بنفسه إلى أقصى حد، وعلى رغم ذلك يحترم الآخرين ويحبهم".
"اندبندنت عربية"