أكثر من سبعين عاما أُنهكت حياتنا بالثورة ومئات الاصطلاحات: الحرية والزعيم والوطن والاستقلال وشمالي وجنوبي ووحدة واستقلال وكرامة.

شتتوا حياتنا وأبعدونا عن المقاصد الأساسية للحياة والسكينة، حيث اجتماع الأسرة العدنية والمساء دافئ تتناول العشاء وتتسامر مع أولادها وتخبرهم عن تحصيلهم العلمي وأخبار المدرسة، وماذا درسوكم صباح هذا اليوم، ثم لقاء عائلي حول التلفاز ومشاهدة مسلسل أو مسرحية مضحكة تملأ البيت ابتسامة ومحبة وصفاء ذهنيا بقلوب سليمة بلا هم ولا غم ولا جيوش ولا جبهات ولا حروب التحرير والكرامة والبطولات.

منعوا الناس حتى من زيارة البحر والاسترخاء قليلا ومعاودة الحنين لمدينة تصحو وتنام على السلام والتعايش والأرستقراطية والانضباط والمدنية.

شغلونا بمطابخ إعلامية ومرتزقة لا يعرفون في هذه الدنيا إلا ذلك الحزب وذاك الزعيم وعلم الوطن الكبير والاجتماعات والبند السابع والمجالس والأحزاب والأحزمة وعسكرة كل صنوف الحياة.

يغادر عام ويأتي عام ليخبرونا بأن محطات كهربائية ومولدات قادمة أبحرت الآن من ميناء هونج كونج وبعد أيام ستصل وستنعم عدن بكهرباء مستقرة على مدار الساعة.

يكذبون كما يتنفسون فنتفاجأ بأن الصيف القادم سيكون كارثيا والشتاء القادم سيكون زلزاليا، أحالوا حياتنا إلى أضحوكة واستخفاف، غيبوا عنا كل أساسيات المعيشة ومنحونا كتابا ضخما يحوي مصطلحات وأناشيد الوطن والثورة وهذا عميل وهذا وطني وأولئك نهبوا الثروات وأولئك فاسدون ولصوص ولم يقبضوا على واحد من هؤلاء.

أغرقوا حياتنا بكلام فاضٍ والمدينة تتخبط وتزدحم بالفوضى والهراء: خرجت دخلت.. طفوا، فجروا، اعتقلوا، حرروا.. المدينة منهكة وهناك طوابير من الرجال والنساء والعجزة، فتتساءل عن هذا، فيقولون لك هذه إعانات ومساعدات.

عالم كبير للتسول والصدقات بالوقت الذي فيه راتب الناس سيسد احتياجاتهم بشرف وكرامة، وبمكان آخر طوابير للدقيق والسكر والفاصوليا قدمتها تلك الدولة أو تلك المنظمة والمدينة تعيش شقاء وتعبا والجميع يلهث خلف وجبتين لعائلته.

صراخ وضجيج: أين الرئاسي؟ قالوا سافروا؟ أين الانتقالي؟ قالوا سافروا، وأخبار بأن الحوثي قصف حقول النفط ومجلس الأمن يستنكر والتحالف يشجب وأوروبا تدين هذا.

صراخ: أين الراتب؟ قالوا بعد يومين في محل الصرافة، وذاك يسأل هل جابوا الراتب أو ما جابوه؟

معيشة غلاء تدك الناس وتحرق حياتهم والبنوك تهيم وتغرق في قروض ومساعدات وغياب السيولة، والأرض حولوها إلى أكبر فوضى في المعمورة. هكذا صارت حياتنا لا أفق ولا فجر جديد ولا تغيير سوى ذاك الكتاب الذي طرحوه لنا لنتصفح فيه الثورات والحريات وكلنا وطن وكلنا سيادة وحيا بك يا زعيم وحيا بك يا وحدة وكلنا استقلال وكلنا التحالف وكلنا مقابر.