أثارت حادثة اعتداء وإساءة تعرض لها معلم على أيدي مجموعة من طلابه داخل مدرسة بإحدى الدول العربية، استنكاراً وردود فعل واسعة في أوساط مجتمع ذلك البلد، تدين هذا الفعل الإجرامي واللاأخلاقي الشنيع، مطالبة بمعاقبة الطلاب المتورطين عقاباً يرقى إلى مستوى ما اقترفت أيديهم من جرم في حق معلمهم والعملية التعليمية، بل في حق الإنسانية برمتها، كون المعلم بالدرجة الأولى مربي أجيال ومنشئ إنسان تقوم عليه نهضة وبناء مجتمع قوي ومتماسك ومزدهر، وبغض النظر عن تطورات القضية ومآلاتها التي وصلت إليها بعد حادثة الاعتداء البشعة والمدانة، إلا أن لي إلى مهنة التعليم، وإلى المعلم خاصة في أي مكان نظرات والتفاتات، وقبل ذلك أقول إن مكانة وهيبة المعلم ستبقيان مهددتين بالانهيار ما لم تسن قوانين تحفظ له حقوقه وتصون كرامته، لأن الانفلات الأخلاقي والقيمي في بعض المجتمعات للأسف قد يصل أحياناً إلى أبعد من مجرد حادثة اعتداء ربما يعتبرها البعض بسيطة أو عابرة تزول أسبابها وتنتفي نتائجها بصلح واعتذار، فحق المعلم عظيم كحق الوالدين كما يقول معروف الرصافي:

فلا تَبخسَنْ حقَّ المعلِّم إنه

عظيمٌ كحقّ الوالدينِ وأعظمُ

وبناءً على هذا، فإن المعلم هو الحامل لأشرف رسالة ينبغي أن تؤدَّى بإخلاص وتفانٍ وأمانة، مع أن في مهنته التي توجب التبجيل والاحترام الكثير من الجهد المبذول والضغوط النفسية، والصبر على قسوة الأيام ومشقات الحياة وصعوبة المعيشة في بعض البلدان، خاصةً إذا نظرنا إلى المردود المادي البسيط الذي يحصل عليه المعلم من أداء وظيفة التعليم فيها، والذي بالكاد يكفيه وأسرته للعيش بكرامة، ومع ذلك فهو صاحب رسالة إنسانية نبيلة تستحق التضحيات في سبيل إيصالها، وفي الوقت نفسه تتطلب منه -وهو يسير في طرق التعليم الشائكة- أن يتخلق بالأخلاق الحميدة ويتحلى بأحسن الصفات، كالتواضع والصدق والحلم والصبر والعفو وغيرها من الصفات التي ترفع من قدره وشخصيته، ذلك لأنه ينبغي أن يكون ويبقى دائماً المثل والقدوة في عيون تلامذته ومن يأخذون عنه العلم، وخير أسوة له في ذلك رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم معلم الإنسانية ومرشدها وهاديها.

فقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنِّتاً، ولكن بعثني معلِّماً ميسِّراً "، فرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام إنما بُعث معلماً (يعلم الناس الكتاب والحكمة) ويعلمهم أمور دينهم ودنياهم، وهكذا المعلم فإنه يغترف لطلابه من ينابيع علمه ومعارفه ليروي ظامئيهم، ويقتطف من بساتين فكره وجهده ليشبع جوعاهم، ويقتطع من نفسه وصحته وعمره زاداً لهم كي يسيروا أقوياء غير واهنين في دروب الاستقامة والفلاح، ويصلوا إلى غاياتهم التي يسعون إليها ويحققوا لأنفسهم ما أرادوا من الفوز والنجاح، ولأوطانهم ما يسمو بها إلى مراتب عليا من العزة والنماء والازدهار، وهنا أستشهد بجزء من لقاء تلفزيوني بث من تلفزيون عدن سنة 1971م مع الشاعر والأديب المثقف لطفي جعفر أمان قبل وفاته بأشهر قليلة، وقد كان مربياً قديراً ومعلماً مبتكراً ومبدعاً في طرائق وأساليب التعليم، وفي ذلك اللقاء يقول لسائله:

"نشأ على يديَّ طلبة هم الآن في مناصب محترمة، وليست العبرة بالمناصب بقدر ما أراهم فعلاً استفادوا من تربيتهم وتعليمهم ويذكرونني بخير وأذكرهم بخير.. لا تتصور كيف يطمئن ضميري كل الاطمئنان عندما أجد جيلاً من الشباب كنت أدرِّسه في الابتدائية والإعدادية وفي كلية عدن ومركز تدريب المعلمين، في كل هذه المراحل الدراسية مرت عليَّ نابتة من الشباب هم خيرة الشباب والحمد لله ".

وقد أنصف الشاعر معروف الرصافي المعلم في قصيدته حين قال:

معلِّمُ أبناءِ البلادِ طبيبُهم

يُداوي سقامَ الجهلِ والجهلُ مُسقِمُ

فلو قيلَ مَن يستنهضُ الناسَ للعلا

إذا ساءَ محياهم لقلتُ المعلِّمُ

إن مهنة التعليم مهنة مقدسة تستنهض الناس للغايات الشريفة، وتقوم على عاتقها واحدة من أعظم الأمانات التي يمكن أن يحملها إنسان، وواحدة من أصعب المسئوليات التي يتحملها بشر، فأمانة فلذات الأكباد في يده ليست هينة أمام الله والضمير، ومسئولية تربيتهم تربية مستقيمة وتنشئتهم التنشئة السليمة، ليست بالأمر السهل اليسير، إذ ينتج عن ذلك صناعة أجيال بأكملها، يكون عليها في مراحل معينة من حياة مجتمعاتها وشعوبها أن تحدث التغييرات نحو الأفضل والأجمل، وهذا ما تنشده وتعمل عليه الأنظمة والحكومات في عصرنا هذا في كل دول العالم.

ولذلك، أقول إن ثقافة معاملة المعلم المعاملة المبنية على قاعدة الرفع من شأنه، وإعطائه حقه من التقدير المعنوي قبل المادي، من قبل المؤسسات المسئولة عن التربية والتعليم في أي بلد، ومن المجتمع بصفة عامة، ويمكن إدراج مادة تسمى (ثقافة المعاملة) في مناهجها الدراسية، هذه الثقافة هي إحدى الركائز الرئيسية والمهمة لإعلاء صرح التقدم الراسخ لأوطاننا، وعين كل نجاح منشود، وأرى أن تظل مدارسنا في جميع أقطارنا العربية ترفع لوحة واحدة موحدة تنقش عليها بيت شوقي الخالد:

قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا

كاد المعلمُ أن يكون رسولا

ذلك لأن المعلم الناجح أساس نجاح أي تجربة تعليمية في أي بلد، واحترامه وتبجيله فرض واجب على كل طالب.

عن "مجلة الشارقة الثقافية"