يستطيع المرء أن يقيس معاناة الشعب من معاناة فنانيه، ففي الزمن السيء الذي تعتلي على ناصيته جهلة القوم وأنصاف المثقفين الوصوليين الذين لا يرف لهم جفن للحالة العامة للناس وقد بلغت القلوب الحناجر فإن أول الضحايا هم الفنانون.

وعندما أقول ذلك فإنني أعرف أن هؤلاء الفنانين لم يبخلوا يوما بإبداعاتهم وإلهاماتهم لشعبهم وأمتهم وكانوا مثل الشمعة التي تحترق وتتلاشى لإنارة الطريق للآخرين.

وحتى بمصاف النضال الوطني فإن هؤلاء قد سبقوا الثورة نفسها والثوار أنفسهم وكانت أغانيهم وأنشوداتهم لوحدها ثورة على الظلم والبغي والاستبداد، الهبت الحماسة وشحذت الهمم للتحرر من ربقة الاستعمار والإمامة وكانت إيذانا وفاتحة للثورات.

أقول ذلك وأنا أستذكر أغاني الانبعاث والتبشير بالثورة عند الثائر الكبير عبدالله هادي سبيت الذي يجتاز بمقدرة عجيبة وبشعور عروبي ناضج المسافات الطوال ليغني للجزائر الثورة ومعركة بورسعيد بعد أن تحدى الاستعمار هنا في أرضه وهناك في أرض الجزائر ومصر، وأصبحت أغانيه الثورية مثل: يا شاكي السلاح، وعن بورسعيد، والله إنه قرب دورك يا ابن الجنوب وهنا ردفان.. إلخ أيقونات لا تسقط بالتقادم الزمني على عادة الغناء السياسي والثوري الذي يأخذ طابعا وقتيا وآنيا في كل الدنيا إلا هنا في بلادنا فإن الأغاني الثورية لا يمسسها تعاقب الزمان بسوء.

كنت أتمثل سبيت العملاق وأنا أكتب، ولكني لا أنسى عمالقة آخرين إلى جانبه في تلك المرحلة التي سبقت الثورة على النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي ومطلع الستينيات؛ الفنان الكبير فضل محمد اللحجي والشاعر المغلس وصالح نصيب والعملاق محمد مرشد ناجي والشاعر الأسطورة لطفي جعفر أمان بأغنية مثل (أخي كبلوني) وسواها مما جعل المرشدي دائما في عين العاصفة منحازا لقضايا وطنه وشعبه لتكون أغانيه صوت الكفاح وملح الثورة كأغنية (بالله عليك يا طير) و(أخي كبلوني) و(يا بلادي) التي صاغها لحنا أوبراليا يفجر براكين الثورة والغضب في نفوس الثائرين على المستويين الوطني والقومي العربي من المحيط إلى الخليج، وهذه الملحة من روائع الشاعر الفلتة لطفي جعفر أمان الذي يعرف كيف يسخر طابعه الرومانتيكي ويخرج منه بسلاسة المقتدر ليصدح بالثوريات المزلزلة بشاعريته الفذة التي لا يجاريه أحد فيها حتى الآن.

وعندما تجد الكلمات المنتقاة من قاموس لطفي بعمق البث المشاعري المتفجر إيحاء و دلالات، فنانا عالميا بكل المقاييس مثل أحمد قاسم فإنه يجعل اللحن سمفونيا راقيا يجتاز نمطية ما الفناه من إيقاع وترخيم وعلو وخفض ليصل إلى تخوم العالمية بل إلى صميمها بأغنيته السمفونية عالية الكعب (المزهر الحزين)، وأتساءل وأنا أستمع إليها الآن: وكأني أسأل أحمد قاسم نفسه الذي وظف ثقافته الموسيقية عالية المستوى في هذا اللحن وكأنه موزارت أو بيتهوفن ليجعل من الضحكة الساخرة أو الهمهمات التي تشبه الطقوس الكنسية مقوم من مقومات لحنه الخالد والذي لو لم يكن لأحمد قاسم سواه لكفاه أن يرفرف به سابحا في فضاء المحلية والعالمية على سواء.

لقد ذهبت في الماضي والتاريخ وأنا بصدد الحاضر، حسبي أن التاريخ كان وسيظل عنوان الهوية لكل أمة من الأمم ومن يفرط في تاريخه يكون قد فرط في هويته، ولا أظن أحدا يدب على اثنتين فوق هذه المعمورة سوف يرضيه أن يكون لقيطا بلا نسب أو حسب.

قبل أيام تساقط من عقد الفن واحدا ممن رهن حياته للفن والغناء والموسيقى.

عاش بؤس الحياة دون أن يدب اليأس في خلجاته ويذهب إلى مهنة أخرى تؤكل عيش كما يقولون اللهم مهنة التعليم.

عاش على الكفاف راضيا به وعاضا على ملكاته الفنية الإبداعية بالنواجذ.

كان ابن الوهط الفنان زين محمد أحمد راجل يختزل حياته في الفن والتدريس، ولعله في مناخات الوهط الثقافية وقربه من الشاعر والسياسي الكبير والمظلوم مهدي علي حمدون صاحب ديوان (ضناني الشوق) ومزاملته للفنان الرائع محمد صالح حمدون وتأثره بمناخ الوهط الفني والرياضي والثقافي في سبعينيات القرن الماضي رغم بؤس وصعوبة تلك العشرية قد فتق من موهبته وأخرجها من برعم التخفي إلى النور، وإلى جانب آل حمدون اهتم به الشاعر والملحن القدير أحمد عمر (اسكندر) السقاف.

وزامل شباب (في حينه) متألقون بمهارات ما يمتلكون من ملكات رائعة في العزف والتأليف والأداء إلى جانب مشاركاتهم الأخرى في الرياضة والمسرح أمثال مهدي صالح حمدون وعلي مهدي محلتي وعلي صالح حمدون وعلي عبدالرحمن السقاف ومحمد أحمد عباد ومحمد عمر محفوظ وعبدان دهيس وحسين عبدالهادي الفقيه وعدنان زين محمد السقاف (الخواجة) وأخيه علي الذي فارقنا أمس إلى بارئه وأخيهم الأكبر محمد زين الخواجة السقاف رحمة الله عليهما، ومحمد سالم الزجر رحمة الله عليه، والرعاية تأتي دائما من الرجل الكبير والنبيل السيد أحمد اسكندر والفنان الأسطوري محمد صالح حمدون وقد رافقه زين راجل في العزف بالعود دائما، ليستمرا معا حتى بعد انفضاض تلك الشراكة المتآخية والمنسجمة التي أشرنا إلى بعض من شخوصها بحسب ما تختزنه الذاكرة المتعبة الآن.

وكان بإمكان زين أن يغرد بعوده وصوته العذب حيث حملته قدماه.

ففي ردفان عرفه الناس الطيبون هناك معلما وفنانا ولم ينقطع عنهم حتى بعد انتقاله للتدريس في مديرية تبن، وأحيا كثيرا من أمسياتهم الفرحية بين الفينة والأخرى حتى القريب من الزمان.

لكن ارتباطه الأوثق بالفنان محمد صالح حمدون وأخيه مهدي كان كافيا ليعمق صلته وإبحاره في ملكوت الغناء اللحجي الأصيل، وجعله يختط أسلوب محمد فضل اللحجي في عزفه أو أدائه الغنائي وبقي حارسا على ميراث اللحجي ومدرسته عزفا وأداء حتى فارق الحياة.

ولأنه سباح ماهر في بحر الأغنية اللحجية فإنه يكون قد استنبط ألحانه من صميم ما تأثر به دون أن يكرر شيئا مما سبق.

لم تسلط عليه الأضواء كثيرا إلا ما يكون من مشاركاته في أمسيات منتدى الوهط الثقافي الذي كان -إلى جانب الحمدون- من أبرز مؤسسيه.

وظل مثابرا أيضا على حضور خميسية منتدى الأستاذ خالد صالح شائف في المنصورة وهو الشخصية الاجتماعية المعروفة في ردفان وعدن ولحج، حتى وافاه الأجل المحتوم دون أن يحظى برعاية من أحد في مرضه كما في أيام عافيته.

رحم الله الفنان القدير زين محمد أحمد راجل وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.