يعد القضاء من أهم مرتكزات قيام الدولة والنهوض بها، حيث لا يمكن لأي دولة من دول العالم أو أمة من الأمم أو شعب من شعوب أن يعيش في أمن وأمان وسلام وتطور إلا بوجود العدل والمساواة واللذين هما من أولويات القضاء، ويقضيان على الفساد ويردعان الظلم وينصران المظلوم ويمنعان الاعتداء على الحقوق الغير، وتتحقق كل الأهداف العلياء من تنمية وتطوير وبناء المجتمعات.

والعكس تماما فإن القصور وغياب مثالية القضاء يُولد الانحطاط والفساد وتتفشى النزاعات والخصومات والحروب ويأكل القوي حق الضعيف ويسيطر الظلم ويُعم الظلام كل مناحي الحياة وتختفي مقومات الحياة، بل تصبح العشوائية واللانظام السمة العامة والسائدة في التعامل المجتمعي وتتنوع الحريات المفرطة على حساب الحقوق الرئيسية والإنسانية كما هو الحال في بلادنا ومعظم البلدان العربية.

ولهذا فقد حظي القضاء بهيبة وخصوصية متفردة عن سائر الوظائف الحكومية العامة من حصانة له وعدم اعتراضه وعدم السماح لأي سلطة كانت بالتدخل في شؤونه وأعماله مادامت تلك الأعمال مبنية على المبادئ الإسلامية في إقامة العدل، كما أُعطيت له كافة الصلاحيات والمتطلبات المعيشية، وتوفير حقوقه المالية والمادية، إضافة إلى ذلك من المبادئ الهامة، وذلك حتى لا يتم التعدي على حقوق الغير، ولا يُساوم في إصدار الحق، لأن حكمه حجة يُبنى عليه ويترتب عليه الوجوب كشريعة دينية تسود من خلالها المواطنة العدلة والصحيحة وفق النهج المحمدي وأصحابه.

ولهذا في زمن الصحابة والتابعين ومن تبعهم من السلف، كان الرجل يهرب ويفضل أن تقطع عنقه ولا يتولى القضاء لما له من دور عظيم في قيام الدولة أو العكس (انتكاسها)، ولأن عقوبته من أشد العقوبات عند الله تعالى ولأنه كذلك عبادة من أفضل العبادات التي يحبها الله تعالى.

تجد القاضي في ذلك الوقت لا يخضع لسلطان أو أمير أو أي قوة أعلى منه في حالة وجود دعوى ضده أو ارتكب عملا مخالفا و(الشواهد على ذلك كثيرة)، لكن الناظر اليوم إلى دور القضاء الثانوي بدلا من أن يكون الرئيسي في إدارة شؤون البلاد وما سببه انعزاله عما يدور حوله حتى وصلت الأوضاع إلى هذا المستوى الضعيف والهزيل، وذلك عندما حجم القضاء دوره العظيم واكتفى بمزاولة مهامه فقط في حل القضايا الخاصة المتراكمة والعاجز عن حلها منذ عقود، بالمقابل تجنب حل المسألة والقضايا الوطنية العامة التي تمس حياة المسلمين وهي من أولويات مهامه لحلها وإقامة الحدود الشرعية، واليد القوية للفساد ومحاربته ومحاكمة أصحابه، إلا أن الأمر اختلف وكان من الطبيعي أن تأتي النتائج بهذه الأوضاع الرديئة، وكل معصية وأزمة تسحب الأخرى حتى سقطت الكثير من إقامة الحد عليها وهي من صميم عمل القضاء في إقامتها للردع والزجر.

من هنا يقتضي القول إن الحياة المثالية ليمكن لها الظهور أو الاستقرار بعيدة عن القضاء العادل، وذلك لأن القاضي أرفع شأنا من رئيس الدولة، فالأمن والأمان والتعليم والصحة والكهرباء، والأخلاق الحميدة والتعاليم الإسلامية ستتبدل إن لم تجد من يحميها ويحييها ويسندها كمبدأ اعتقادي وحقوق إنسانية المعايشة وكل ذلك من مهام القضاء.

وبهذا يتعين علينا عدم الذهاب بعيدا للبحث عن أهم أسباب سوء الأوضاع المتفرخة في أوطاننا دون الرجوع إلى هذا العماد الأساسي إذا أردنا حقًا دولة عادلة.