> «الأيام» وحيد الفودعي:

  • غموض يشير إلى تعاملات مالية مشبوهة وفساد مرتبط بإدارة الديون
  • المجتمع الدولي لم يعد يفهم كيف تدير الحكومة التزاماتها المالية
> تشكل مسألة غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة في الحكومة اليمنية أحد التحديات الجوهرية التي تعصف بمؤسسات الدولة وتعرقل جهود التعافي والنهوض في ظل أوضاع سياسية واقتصادية معقدة ومتشابكة، فمع استمرار الأزمات المتفاقمة في البلاد، يتزايد الشعور بعدم الثقة في النظام الإداري والمالي للدولة، مما يؤدي إلى هدر الموارد وتفاقم الفساد المالي والإداري، ويعد غياب الموازنة العامة للدولة وضعف أداء الأجهزة الرقابية من العوامل الرئيسية التي تساهم في تعميق هذه المشكلات، حيث تتطلب مؤسسات الدولة نظاماً رقابياً فعّالاً يضمن توجيه الموارد المالية والبشرية بشكل فعّال نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية بكفاءة وعدالة.

لطالما كانت قضية غياب الشفافية في اليمن محوراً رئيسياً للحديث بين الأوساط السياسية والاقتصادية محلياً ودولياً. الشفافية ليست فقط مكوناً أساسياً للحكم الرشيد، بل هي ركيزة أساسية لأي جهود إصلاحية تسعى إلى تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين. لكن الواقع اليمني يشهد فجوة هائلة بين الوعود الحكومية المتكررة بتنفيذ إصلاحات جذرية وما يحدث على أرض الواقع. فرغم تأكيدات رئيس الحكومة بن مبارك بشأن خطط الإصلاح المالي والإداري، فإن غياب الإرادة السياسية وعدم تنفيذ هذه الخطط يجعل هذه الوعود أقرب إلى الشعارات منها إلى التغييرات الفعلية.

ومن هذا المنطلق، جاء تقرير الشفافية المالية لعام 2024، الصادر عن الحكومة الأمريكية، كوثيقة ذات أهمية بالغة، حيث ألقى الضوء على مواطن الخلل العديدة في النظام المالي للحكومة اليمنية. التقرير سلط الضوء على جملة من التحديات التي ما زالت تشكل محوراً للنقاش، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، مشيراً إلى غياب آليات رقابية فعالة، وفشل الحكومة في تحقيق الشفافية المطلوبة في إدارة المال العام، فغياب الشفافية يشمل كل القطاعات، من عدم إصدار الموازنة العامة، إلى الغموض المحيط بإدارة الديون العامة، وصولاً إلى غياب الإفصاح عن النفقات المخصصة للقطاعات الحساسة مثل الجيش والاستخبارات.
  • غياب الموازنة العامة
من أبرز النقاط التي أشار إليها التقرير هو عدم إصدار الحكومة وثائق الموازنة العامة منذ سنوات، وهو ما يشكل غياباً كاملاً للشفافية المطلوبة لضمان الإدارة السليمة للأموال العامة، فالموازنة العامة تعد الوثيقة المالية الرئيسية التي تضع الدولة من خلالها أولوياتها الاقتصادية والمالية، وتكشف عن مصادر الإيرادات وأوجه الإنفاق، إلا أن الحكومة اليمنية، في ظل رئاسة بن مبارك، فشلت في تقديم هذه الوثائق، مما يعكس ضعفاً كبيراً في الالتزام بالشفافية المالية. التقرير كشف أن الحكومة لم تصدر تقارير تنفيذية أو ختامية تتعلق بالميزانيات السابقة، مما يعزز المخاوف بشأن وجود فساد مالي وإداري يعيق إدارة الموارد بشكل فعّال.

إن غياب هذه الوثائق لا يؤثر فقط على الثقة العامة بالحكومة، بل يعيق كذلك الجهود المبذولة لجذب الدعم الدولي الذي يعتمد بشكل كبير على مدى وضوح الحكومة في إدارة مواردها المالية. عدم الإفصاح عن هذه المعلومات يجعل من الصعب تقييم الوضع المالي الحقيقي للدولة، ويعرقل أي جهود للإصلاح المالي أو الإداري.
  • غموض إدارة الديون
بالإضافة إلى غياب الشفافية في الموازنة العامة وضعف الرقابة، أشار التقرير إلى غياب المعلومات الكافية حول التزامات الدولة المالية، بما في ذلك الديون المرتبطة بالمؤسسات المملوكة للدولة. هذا الغموض يجعل من الصعب تقييم الوضع المالي الحقيقي للدولة ويزيد من الشكوك حول قدرة الحكومة على إدارة تلك الديون بطريقة مسؤولة ومستدامة. التقرير كشف عن عدم وجود تقارير دقيقة توضح تفاصيل الديون، سواء من حيث حجمها أو شروطها أو الجهة المقرضة، مما يفتح المجال أمام احتمالات الاستغلال غير المبرر للموارد وإبرام اتفاقيات مالية دون إعلام الشعب أو الجهات الرقابية.

هذا النقص في المعلومات لا يؤثر فقط على الثقة في الحكومة، بل يجعل من الصعب على المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الداعمة فهم كيفية إدارة اليمن لالتزاماتها المالية. كما أن الغموض المالي قد يشير إلى وجود تعاملات مالية مشبوهة أو فساد مرتبط بإدارة الديون، مما يزيد من الشكوك حول مدى التزام الحكومة بمبادئ الحوكمة الرشيدة.
  • غياب الشفافية في النفقات العسكرية
واحدة من أهم النقاط التي أشار إليها التقرير كانت تتعلق بالنفقات المخصصة للجيش والاستخبارات. هذه النفقات تُشكل جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة، ومع ذلك، لا تخضع لأي نوع من الرقابة، سواء من البرلمان أو المؤسسات المدنية. التقرير أشار إلى أن غياب الشفافية في هذا القطاع يعزز من احتمالات سوء إدارة الأموال العامة، ويثير الشكوك حول مدى فعالية استخدام هذه الموارد لتحقيق الأهداف المتعلقة بالأمن القومي.

عدم وجود رقابة فعالة على هذه النفقات يُصعّب على المجتمع المحلي والدولي التحقق من كيفية استخدام هذه الأموال، وهو ما يفتح المجال أمام احتمالات الهدر المالي. ففي بلد يعاني من أزمات اقتصادية حادة، يصبح من الضروري ضمان إدارة الأموال المخصصة للقطاعات الحيوية مثل الجيش بكفاءة وشفافية، بما يضمن توجيه هذه الموارد لتحقيق الأهداف المعلنة.
  • نفقات الرئاسة والمجلس الرئاسي
من النقاط الأخرى التي أشار إليها التقرير هو غياب الشفافية حول النفقات المخصصة لدعم الرئيس ومجلسه. إن عدم الإفصاح عن هذه النفقات يثير تساؤلات جدية حول مدى التزام الحكومة بمبادئ الشفافية والمساءلة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد. فغياب الإفصاح المالي في هذا الجانب يزيد من حالة الشكوك حول كيفية إدارة الأموال العامة ويثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه النفقات تُستخدم لخدمة مصالح الدولة أم لخدمة مصالح فئة محددة دون وجود رقابة كافية.
  • ضعف الرقابة المالية
لم يتوقف التقرير عند غياب الشفافية فقط، بل أشار أيضاً إلى ضعف أداء الأجهزة الرقابية، وعلى رأسها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة. هذا الجهاز الذي يُفترض أن يكون حجر الأساس في الرقابة على الإنفاق العام، يعاني من نقص في الاستقلالية، مما يجعله غير قادر على القيام بدوره الرقابي بفعالية. التقرير أشار إلى أن الجهاز المركزي للرقابة يعاني من ضغوط سياسية تمنعه من القيام بمهامه وفق المعايير الدولية، وهو ما يضعف من قدرة الدولة على محاسبة المسؤولين عن سوء الإدارة أو الفساد.

إن الجهاز الرقابي المستقل هو الضامن الأساسي لحسن إدارة الأموال العامة، لكن في الحالة اليمنية، يغيب هذا الدور بشكل واضح، مما يؤدي إلى تفاقم الفساد وسوء الإدارة. وبذلك، تفقد مؤسسات الدولة مصداقيتها أمام المجتمع المحلي والدولي، حيث يُنظر إلى هذه المؤسسات على أنها أدوات خاضعة للنفوذ السياسي وليست مؤسسات مستقلة تعمل لصالح الشعب.
  • خاتمة
في ضوء تقرير الشفافية المالية لعام 2024، بات واضحاً أن الحكومة اليمنية بحاجة ماسة إلى تعزيز الشفافية والمساءلة في كل جوانب إدارة المال العام. التقرير لم يكتفِ بالكشف عن المشاكل المالية، بل أشار إلى ضرورة اتخاذ خطوات فعلية لتعزيز الحوكمة الرشيدة وتحقيق إصلاحات حقيقية. في ظل غياب هذه الإصلاحات ستظل البلاد عالقة في دائرة مغلقة من الفساد وسوء الإدارة، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية.

الحكومة اليمنية تواجه اليوم مسؤولية كبيرة تتمثل في إعادة بناء الثقة مع الشعب والمجتمع الدولي من خلال تعزيز الشفافية في إدارة موارد الدولة. بدون هذا الالتزام، ستظل الجهود المبذولة لتحقيق الإصلاحات مجرد شعارات فارغة لا تُترجم إلى واقع عملي ملموس. كما أن تعزيز الشفافية يعد خطوة أساسية لجذب الدعم الدولي الذي يعتمد على مدى وضوح الإدارة المالية للدولة.