> د. هيثم الزبيدي:

​أحب أن أمنح جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام إلى الأكاديمي الأميركي الراحل ديفيد لاندس. بالطبع هذا مستحيل، فلا أنا من هيئة الجائزة ولا الجائزة تمنح لراحلين. لكن هذا الباحث والمفكر الأكاديمي أعطاني دروسا بليغة في فهم الاقتصاد في العالم وأثّر بي كثيرا من يوم ما قرأت كتابه الشهير “ثراء وفقر الأمم: لماذا البعض غني والآخر فقير”. صدر الكتاب عام 1998، وكان حضوره لافتا بشكل كبير على الرغم من الانتقادات التي صاحبت نشره.

كان لاندس يسعى للرد في كتابه على سؤال محير يرتبط بالغنى والفقر الذي يفصل بين الأمم. كان ذكيا في معالجته الموضوع ولم يذهب مبكرا إلى الاستنتاجات التي استهدفتها الانتقادات المصاحبة لنشر الكتاب. تتركز الانتقادات على إصرار شريحة من الباحثين والاقتصاديين في العالم على اعتبار أنك لا يمكن أن تحلل مسببات الثراء والفقر باستخدام أفكار تستند على المركزية الأوروبية، بكل أشكالها الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية.

لا أملك ما يكفي من المعرفة لتقييم انتقاداتهم. لكن بحكم الاهتمام، كان الكتاب يقدم تفصيلات كثيرة في كل قطاع من قطاعات الاقتصاد ويربط بين نجاح وتقدم هذا القطاع أو اضمحلاله بعد تقييمه بالنظر إليه من خلال عوامل مختلفة، تدفعه للتقدم في مكان وتؤثر عليه لدرجة الدمار في مكان آخر. من كل هذا أحسست أنني صرت أكثر وعيا بالأبعاد غير الاقتصادية المباشرة للاقتصاد.

لا أعرف إن كان الباحثون الثلاثة الذين حصلوا على جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام قد قرأوا الكتاب أو انطلقوا منه. لكن من الوارد أن يكون في جداول مراجعهم في أوراقهم البحثية المنشورة أو كتبهم، لأن مبررات منحهم الجائزة من قبل اللجنة تشير إلى التقارب بين أفكار لاندس في كتابه المنشور عام 1998، وما اشتغل عليه التركي دارون عجم أوغلو والبريطانيان سايمون جونسون وجيمس روبنسون منذ عام 2001.

التقارب كبير لأنهم يطرحون نفس الأسئلة، ولكنهم يمضون أكثر من ربع قرن في الرد عليها قبل الوصول إلى الجائزة العالمية الأهم. وفوق كل هذا فإن ديفيد لاندس أستاذ معروف في جامعة هارفارد وكتب مؤلفات تمهيدية واستكمالية لكتابه على مدى عشرات السنين ابتداء من دور المصرفيين الغربيين في تمويل باشوات مصر، وأثر التكنولوجيا في الانطلاقة المذهلة للبشرية في العصر الحديث، وأهمية الساعات في صناعة العصر الحديث، وصولا إلى معنى السلالات الأسرية الثرية التي شيدت كبريات المؤسسات الصناعية والمالية في العالم.

ما يقوله الباحثون، وما قاله لاندس قبلهم، إننا لا نستطيع فهم كيف لدولتين نفطيتين تنتجان بنفس الحجم ولديهما عدد متقارب من السكان، وأن تكونا متناقضتين في النتيجة النهائية بين دولة ثرية وأخرى غارقة بالفقر.

يضع هؤلاء العوامل المختلفة، وصولا إلى المذهب وليس الدين فقط في التأثير على حالة الثراء أو الفقر بينهما. وقبل ربط الأمر بالأديان مثلا، يحاول لاندس الرد على الفرق بين المسيحيين أنفسهم، بين مجتمع أرثوذوكسي أو كاثوليكي أو ثالث بروتستاني، وكيف أن معتنقي نفس الديانة يمكن أن يؤثر مذهبهم في طريقة توظيفهم المال والعلاقات الاجتماعية والثقة بين الأفراد، لصناعة الثروة (أو تدميرها). يذهب أبعد في ربط المعطيات الجغرافية والثروات الطبيعية والمزاجية الاجتماعية بقدرة المجتمعات على صنع الثراء أو تبديده.

طالما لا أستطيع منح لاندس جائزة نوبل، هل لي أن أطلب من الذين تابعوا أنباء الجائزة ومبررات منحها، أن يشاركوني متعة متأخرة وأن يطالعوا الكتاب؟
العرب اللندنية