> محمد أبوالفضل:

​الآن عرفنا لماذا سلكت مصر طريق الحذر في التعامل مع النظام السوري الجديد، ولماذا احتفظت بمسافة سياسية بعيدة عنه، فالنتيجة التي وصلت إليها أحداث اللاذقية أخيرا أكدت أن الأوضاع مقلقة وغير مطمئنة، وأن التغيير الحقيقي لن يطال هيئة تحرير الشام وحلفاءها بسهولة، فقد تربت غالبية عناصرها على توجهات متطرفة، وتشرّب قادتها بأفكار أشبه بمسلمات تصعب إعادة النظر فيها.

يبدو أن خريطة الحكم كانت واضحة لدى أجهزة الأمن في مصر أكثر من غيرها من دول عربية وغربية، اعتقدت أن النظام الجديد في سوريا لن يسلك طريق العنف، ولن يعيد مشاهد الاستبداد التي ظهرت في تصرفات حكم آل الأسد، لكن ما بعثت به أحداث الساحل التي راح ضحيتها المئات من أبناء الطائفة العلوية دق جرس إنذار حول ما يمكن أن تصل إليه الأوضاع في سوريا من اقتتال واشتباكات بسبب الهوية.

وإذا لم تتمكن الإدارة التي يقودها الرئيس أحمد الشرع من تحاشي الدخول في نفق مظلم عبر إجراءات دقيقة فسيصبح الوضع خطيرا في المستقبل، لأن هناك معطيات كثيرة واحتقانات متراكمة يمكن أن تؤدي إلى الانزلاق إليه.

عاب البعض على مصر تمهلها في تطوير علاقاتها السياسية مع سوريا وسط قطار طويل من الدول التي هرولت نحو التطبيع معها، وتحملت القاهرة الكثير من الانتقادات والاتهامات والضغوط، مع ذلك لم تستجب أو تغير موقفها، ربما احتفظت بشعرة معاوية مع النظام السوري الجديد، فلم تهرول أو تبتعد، ولم تعارض أو تؤيد، إلى أن تتأكد من تبدد هواجسها على وقع ظهور مؤشرات جيدة. ما حدث في اللاذقية أخيرا عزز مخاوف مصر وقد يدفع دولا أخرى إلى التريث في تطوير العلاقات مع دمشق.

فهمت القاهرة المشهد وتعقيداته ولم تنسق وراء أجواء التفاؤل التي سادت بعد سقوط نظام بشار الأسد، فلدى الأجهزة الأمنية المصرية خبرة وأذرع طويلة في التعامل مع القوى الإسلامية بأطيافها ومعرفة توجهاتها، ولم تنجر خلف صور براقة واعدة حاولت بعض وسائل الإعلام ترويجها، وانتظرت مشاهدة كيف سيتم التصرف في المحكات.

في أول محك عملي أخفقت الإدارة السورية. ومهما كان شكل التدخلات الخارجية ومحاولات التحريض، من إيران وتركيا وحزب الله اللبناني وصولا إلى فلول النظام السابق، فالطريقة التي تعاملت بها قوات الأمن السورية انطوت على رغبة في الانتقام.

لا أحد في مصر يتمنى لسوريا أن تدخل مربع الحرب الأهلية أو يتسع فيها نطاق الاقتتال بين جماعات وطوائف متباينة، لأن هذا يعني زيادة حجم الخسائر الإستراتيجية لمصر التي ترى تاريخيا أن سوريا العفية تمثل أهمية حيوية، وأي حذر أو تريث ظهرا كانت لهما دوافعهما الأمنية، وحملا رسالة فحواها: على الإدارة السورية الانتباه لما يحيق بها، وعليها تنظيف الجيوب التي يمكن أن تعرقل مسيرة بناء دولة جديدة، قوامها العدالة والمساواة وعدم إقصاء أحد بلا جريرة أو جريمة ارتكبها.

انتظرت القاهرة رسالة طمأنة صريحة للتخلص من مخاوفها على سوريا فلم تصلها، كل ما لوحظ هو إشارات عامة لا تؤكد أن الحكومة السورية تعتزم اتخاذ إجراءات حقيقية لبناء الثقة. كل المسؤولين الذين ذهبوا إلى دمشق أو استقبلت عواصمهم مسؤولين من سوريا حداهم أمل سياسي لتغيير الأوضاع بشكل ناعم تدريجيا، لكن أحداث اللاذقية ستترك غصة وتبعات على الكثير من القضايا، في مقدمتها استكمال مسيرة الانفتاح الخارجي على دمشق.

ما كشفته أحداث اللاذقية قمة جبل الثلج المسلح الذي حذرت منه مصر صراحة وضمنيا، فالجماعات التي انخرطت في صفوف الجيش مهما كانت جاهزيتها العسكرية ظلت حساباتها ضيقة وتقوم على قاعدة أيديولوجية، والتشكيلة التي حوتها المؤسسة الأمنية في سوريا تتكون من جنسيات مختلفة، يغلب عليها السعي للثأر وممارسة العنف واختفاء الضوابط التي تتحكم فيه، وفكرة المواءمات التي تسيطر عليها لا تبدي اهتماما بالتركيبة الاجتماعية الحساسة في سوريا، التي فيها الكثير من مكونات الانفجار الكامنة.

حسمت مصر مرارا موقفها من مسألة الأمن، وشددت على أهمية الحفاظ على الجيوش النظامية، وكل الدول العربية التي فرطت في مؤسساتها العسكرية شهدت انهيارات داخلية خطيرة، من العراق إلى ليبيا مرورا باليمن، وحتى لبنان عندما سمح بوجود قوة موازية ممثلة في حزب الله واجه صعوبات ضخمة أفضت إلى تورطه في حروب لا ذنب لقادة الدولة فيها، بسبب رؤى خاصة بحزب الله وعلاقته بإيران.

وقد يكون الوضع في سوريا أشد خطرا، لأنه يجمع كل أمراض الدول العربية التي سرّحت جيوشها، يضاف إليها فائض من الجماعات المسلحة التي لها امتدادات خارجية.

ورغم الحرب المريرة التي اندلعت في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقفت مصر بجانب الجيش، وتغاضت عن الانتماءات الإسلامية لبعض قادته، ففي النهاية هناك هيكل لمؤسسة عسكرية نظامية يمكن البناء عليه، وهو ما تجاهله الرئيس السوري أحمد الشرع، معتقدا أن كثرة الجماعات المسلحة يمكن وضعها في بوتقة واحدة، ومُغْفلا الخلافات بينها، فإذا كانت الألوان العسكرية التي شكلت نواة للجيش السوري الجديد والمتقاربة فكريا غير قادرة على الانصهار، فما هو المصير المنتظر إذا نجح في ضم قوات الأكراد والدروز وأي جماعة عرقية أخرى؟

بالتأكيد الوضع سيكون أكثر قسوة، وبات الوصول إلى هذه الحالة من الاندماج صعبا عقب أحداث اللاذقية، فأخطر ما فيها أنها قد تفتح بابيْ العنف والطائفية على مصراعيهما، لأن الثقة في المؤسسة الأمنية التابعة للدولة اهتزت وتحتاج عملية إعادتها إلى مجموعة من الخطوات الجريئة، التي تنطلق من أساس وطني وليس عقائديا كفيلا بأن يدمر أي دولة ويجعلها عرضة للتفكك.

وما لم تستمع دمشق إلى نصائح عسكرية من جهات مخلصة فسوف يجد النظام الحاكم نفسه عرضة لتجاذبات خاضعة لتقديرات قوى إقليمية ودولية متنافرة.

لم تكن مصر مرتاحة للتوجهات الأيديولوجية لنظام الشرع ولم تعثر على إشارات جدية توحي بتخليه عن ماضيه الذي قاده إلى الانخراط في صفوف تنظيم القاعدة، وحاول الرجل أن يخفي توجهاته السابقة في عباءة من التصريحات الفضفاضة، لكن التيار كان جارفا ليشده نحو الماضي، ولم تتمكن القاهرة من التقاط ما يشجعها على مساعدته بالنصيحة، فخبرتها في التعامل مع الجماعات المتطرفة تقول إن المنتمين إليها لا يقلعون بسهولة عن أفكارهم، والدولة الوطنية بالنسبة إليهم خيال في عقل أصحابه.

ولا ينسى مصريون تصريحا لمرشد جماعة الإخوان السابق مهدي عاطف قال فيه إن المسلم الفلبيني أقرب إليه من المسيحي المصري، وهذه العقلية لا تنتج دولة في سوريا أو غيرها، وقد تؤدي إلى انقسامات أكبر مما كانت عليه في عهد الأسد، الذي لم تعارضه القاهرة لأنه كان حائطا ضد غول طائفي بدأ ينطلق بشراسة بعد سقوطه.
عن "العرب اللندنية"