• ​التخويف بالفقر من أساليب الشيطان
عداءُ الشيطانِ للبشرِ عداءٌ أزليٌّ؛ وُجِدَ منذُ نشأتِهم، ولن تَنِيَ ضراوتُه حتى يَفنى آخرُ دارجٍ منهم, وله في حربِهم وإضلالِهم أساليبُ شتّى، يأتي في مُقَدَّمِها أسلوبُ التخويفِ، سيما ما يتعلّقُ بإملاقِ الرزقِ وانقطاعِه والوعدِ بالفقرِ، كما قال -تعالى-: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾[البقرة: 268].

وما تسلَّطَ على الخلْقِ بمثْلِ ذلك التخويفِ والتهديدِ، وأجلبَ عليهم فيه؛ إلا لِعلمِه بما جُبِلَتْ عليه نفوسُهم من حبِّ المالِ، كما قال -سبحانَه-: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾[الفجر: 20]، وولعِهم بالمحسوسِ المُعاينِ عن الغائبِ الموعودِ، وإيثارِهمُ العاجلةَ وحبَّ التَّرَفُّهِ، وانفتانِهم بسوابغِ نعمِ الدنيا التي يُبتلى بها البعضُ، وما يُحدثُه ذلك التخويفُ في قلوبِهم من هزِّ الثوابتِ، وتسهيلِ ارتكابِ المآثمِ، بل الموبقاتِ؛ فما مُنِعتِ الحقوقُ، ولا امتدتْ يدُ الإثمِ بأخذِ المالِ المصونِ، ولا سُفِكَ الدمُ المعصومُ، ولا اسْتُبيحَ الفرجُ الحرامُ، ولا أُسيءَ الظنُّ باللهِ، ولا انقطعَ الرِّفْدُ ورعايةُ الضعيفِ، وفَشَتِ الأَثَرةُ، وغدا المالُ مَعْقِدَ الإخاءِ والقطعيةِ بمثْلِ ذلك التخويفِ الشيطانيِّ؛ ولذا قُرِنَ وعْدُ الشيطانِ بأمْرِه بالفحشاءِ، وهي المنكراتُ البالغةُ في السوءِ والفُحْشِ مبْلغًا عظيمًا؛ لقوةِ إفضائه لها, قال سفيانُ الثوريُّ: "ليس للشيطانِ سلاحٌ كخوفِ الفقرِ، فإذا قَبِلَ ذلك منه؛ أخذَ بالباطلِ، ومنعَ من الحقِّ، وتكلَّمَ بالهوى، وظنَّ بربِّه ظنَّ السوءِ".
  • من آثار خوف الفقر
وربما نفَثَ الشيطانُ سُمَّ ذلك التخويفِ في النفوسِ بإلقاءِ الوساوسِ، وربما اكتفى بما يُلقيه على ألسنِ مَن فتَنَهم وأسكرَهم حبُّ الدنيا؛ فباتوا يُخوِّفون الناسَ من المستقبلِ المجهولِ، والفقرِ المائيِّ، والتَّصَحُّرِ الجُغرافيِّ، والانفجارِ السكانيِّ، وتفشِّي البطالةِ، ونُضوبِ الثرواتِ، فكيف كان العلاجُ الربانيُّ للسلامةِ من ذلك التخويفِ الشيطانيِ؟
  • العلاج الرباني للخوف من الفقر
إنَّ خالقَ الإنسانِ، وعالِمَ ضعْفِه، والخبيرَ بتسلُّطِ الشيطانِ عليه, قد أرشدَ برحمتِه وهدايتِه إلى طريقِ النجاةِ من ذلك الفخِّ الوخيمِ؛ الذي به يُحقَّقُ الإيمانُ، وينخَنسُ الشيطانُ، ويَملأُ حسنُ الظنِّ باللهِ أركانَ الوجودِ، ويُضيئُ بنورهِ حنادسَ المضائقِ، ويُبدِّدُ بقوتِه جحافلَ المخاوفِ، وتَطِيبُ الحياةُ، ويُبارَكُ الرزقُ، وتُقامُ الحقوقُ، وتُحفظُ الكرامةُ، ويُنصَرُ الدِّينُ.

وأساسُ بناءِ تلكمُ النجاةِ اليقينُ الجازمُ بتفردِ اللهِ بالرزقِ، وتقديرِه له قبلَ خلْقِ الخلْقِ، وتكفُّلِه به، وأنه لا معطيَ لما مَنَعَ، ولا مانعَ لما أعطى، وأنَّ رِزقَ اللهِ لا يَجُرُّه حِرْصُ حريص، ولا يردُّه كراهيةُ كارهٍ، وأنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستوفيَ رزقَها, قال اللهُ -تعالى-: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[هود: 6]، ويقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد"، ويقولُ: "إنَّ رُوحَ القدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها؛ فاتقوا اللهَ، وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ", ويقولُ: "لا تستبطئوا الرزقَ؛ فإنه لم يكنْ عبدٌ لِيموتَ حتى يَبلغَ آخرَ رزقٍ هو له، فأجْملوا في الطَّلبِ؛ أَخْذُ الحلالِ، وترْكُ الحرامِ"، قال أبو سليمانَ الدارانيُّ: "مَن وَثِقَ باللهِ في رزقِه؛ زاد في حُسْنِ خُلُقِه، وأعْقبَه الحِلْمَ، وسَخَتْ نفسُه في نفقتِه، وقلّتْ وساوسُه في صلاتِه".

الالتجاءُ إلى اللهِ، والاحتماءُ بحِماه عاصمٌ -بإذنه- من ذلك النزغِ الشيطانيِّ، يقولُ -تعالى-: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف: 200]، وإنْ جُمِعَ مع الاستعاذةِ الاستغفارُ فذاك أقوى في طلبِ السلامةِ؛ إذ ما سُلِّطَ الشيطانُ إلا بذنبٍ، يقولُ عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه-: "إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ"، وفي روايةِ الطبرانيِّ: "وإذا وجدتم لمّةَ الشيطانِ؛ فاستعيذوا باللهِ، واستغفروه".

القناعةُ بقسمةِ اللهِ الرزقَ، والرضا عنه، واستحضارُ حياةِ الواثقين باللهِ الذين عاشوا هذه القناعةَ والرضا واليقينَ حالًا وواقعًا في حياتِهم؛ فكانت مواقفُهم للمؤتسين عزاءً وسَلْوةً من أبلغِ ما تُطْرَدُ به وساوسُ الشيطانِ ومخاوفُه، ومن أقوى ما يقوّي قلبَ المرءِ إزاءَ إجلابه عليه بسلاحِ الفقرِ، وإمامُهم الرائدُ في ذلك رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يُخرجُه الجوعُ من بيته بحثًا عن لقمةٍ تُسَكِّنُه، وكان يرِبطُ الحجرَ على بطنِه، ويَمضي عليه الشهران لا يجدُ طعامًا سوى الأسودين؛ الماءِ والتمرِ.
  • من أقوال السلف عن الفقر والغنى
شتانَ بين وعْدِ الفقرِ الشيطانيِّ ووعْدِ الفضلِ الربانيِّ؛ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 268], قال ابنُ القيمِ: "هذا، وإنَّ وعْدَه له الفقرَ ليسَ شفقةً عليه، ولا نصيحةً له كما ينصحُ الرجلُ أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًا، بل لا شيءَ أحبَّ إليه من فقرِه وحاجتِه، وإنما وعْدُه له بالفقرِ وأمْرُه إياه بالبخلِ؛ ليسيءَ ظنَّه بربِّه، ويتركَ ما يحبُّه من الإنفاقِ لوجهِه؛ فيستوجبَ منه الحرمانَ, وأمّا اللهُ -سبحانَه- فإنَّه يَعِدُ عبدَه مغفرةً منه لذنوبِه، وفضلًا بأنْ يَخْلِفَ عليه أكثرَ مما أنفقَ وأضعافَه؛ إمّا في الدنيا، أو في الدنيا والآخرةِ، فهذا وعْدُ اللهِ، وذاك وعْدُ الشيطانِ؛ فلينظرِ البخيلُ والمنفقُ أيَّ الوعْدين هو أوثقُ؟ وإلى أيِّهما يطمئنُ قلبُه وتسكنُ نفسُه؟ واللهُ يوفقُ مَن يشاءُ، ويخذلُ مَن يشاءُ، وهو الواسعُ العليمُ".

هذا، وإن مما يُعلمُ ضرورةً من الدِّينِ أنه لا تعارضَ بين تيقُّنِ الرزقِ وعدمِ الخوفِ من الفقرِ وسعْيِ المرءِ في طلبِ الرزقِ من أسبابِه المشروعةِ، وحسنِ تدبيرِه نفقتَه ومعيشتَه؛ بل ذاك من تكليفِ الشرعِ، وحصيفِ الأمرِ، ومما يقوي الثقةَ باللهِ؛ إذ ذاك أمْرُه كما كان تفردُّه بالرزقِ وتخويفُ الشيطانِ بالفقرِ خبرُه؛ وكَانَ يُقَالُ: "حُسْنُ التَّدْبِيرِ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ، وَبَابُ السَّلَامَةِ الِاقْتِصَادُ"، وقال أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ! إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكَ فَوَسِّعْ، وَإِذَا قَتَّرَ عَلَيْكَ فَاقْتُرْ، وَلَا تُجَاوِدِ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ أَكْرَمُ، وَأَقْدَرُ، وَأَجْوَدُ".