- التخويف بالفقر من أساليب الشيطان
عداءُ الشيطانِ للبشرِ عداءٌ أزليٌّ؛ وُجِدَ منذُ نشأتِهم، ولن تَنِيَ ضراوتُه حتى يَفنى آخرُ دارجٍ منهم, وله في حربِهم وإضلالِهم أساليبُ شتّى، يأتي في مُقَدَّمِها أسلوبُ التخويفِ، سيما ما يتعلّقُ بإملاقِ الرزقِ وانقطاعِه والوعدِ بالفقرِ، كما قال -تعالى-: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾[البقرة: 268].
- من آثار خوف الفقر
- العلاج الرباني للخوف من الفقر
إنَّ خالقَ الإنسانِ، وعالِمَ ضعْفِه، والخبيرَ بتسلُّطِ الشيطانِ عليه, قد أرشدَ برحمتِه وهدايتِه إلى طريقِ النجاةِ من ذلك الفخِّ الوخيمِ؛ الذي به يُحقَّقُ الإيمانُ، وينخَنسُ الشيطانُ، ويَملأُ حسنُ الظنِّ باللهِ أركانَ الوجودِ، ويُضيئُ بنورهِ حنادسَ المضائقِ، ويُبدِّدُ بقوتِه جحافلَ المخاوفِ، وتَطِيبُ الحياةُ، ويُبارَكُ الرزقُ، وتُقامُ الحقوقُ، وتُحفظُ الكرامةُ، ويُنصَرُ الدِّينُ.
وأساسُ بناءِ تلكمُ النجاةِ اليقينُ الجازمُ بتفردِ اللهِ بالرزقِ، وتقديرِه له قبلَ خلْقِ الخلْقِ، وتكفُّلِه به، وأنه لا معطيَ لما مَنَعَ، ولا مانعَ لما أعطى، وأنَّ رِزقَ اللهِ لا يَجُرُّه حِرْصُ حريص، ولا يردُّه كراهيةُ كارهٍ، وأنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستوفيَ رزقَها, قال اللهُ -تعالى-: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[هود: 6]، ويقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد"، ويقولُ: "إنَّ رُوحَ القدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها؛ فاتقوا اللهَ، وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ", ويقولُ: "لا تستبطئوا الرزقَ؛ فإنه لم يكنْ عبدٌ لِيموتَ حتى يَبلغَ آخرَ رزقٍ هو له، فأجْملوا في الطَّلبِ؛ أَخْذُ الحلالِ، وترْكُ الحرامِ"، قال أبو سليمانَ الدارانيُّ: "مَن وَثِقَ باللهِ في رزقِه؛ زاد في حُسْنِ خُلُقِه، وأعْقبَه الحِلْمَ، وسَخَتْ نفسُه في نفقتِه، وقلّتْ وساوسُه في صلاتِه".
الالتجاءُ إلى اللهِ، والاحتماءُ بحِماه عاصمٌ -بإذنه- من ذلك النزغِ الشيطانيِّ، يقولُ -تعالى-: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف: 200]، وإنْ جُمِعَ مع الاستعاذةِ الاستغفارُ فذاك أقوى في طلبِ السلامةِ؛ إذ ما سُلِّطَ الشيطانُ إلا بذنبٍ، يقولُ عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه-: "إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ"، وفي روايةِ الطبرانيِّ: "وإذا وجدتم لمّةَ الشيطانِ؛ فاستعيذوا باللهِ، واستغفروه".
- من أقوال السلف عن الفقر والغنى
شتانَ بين وعْدِ الفقرِ الشيطانيِّ ووعْدِ الفضلِ الربانيِّ؛ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 268], قال ابنُ القيمِ: "هذا، وإنَّ وعْدَه له الفقرَ ليسَ شفقةً عليه، ولا نصيحةً له كما ينصحُ الرجلُ أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًا، بل لا شيءَ أحبَّ إليه من فقرِه وحاجتِه، وإنما وعْدُه له بالفقرِ وأمْرُه إياه بالبخلِ؛ ليسيءَ ظنَّه بربِّه، ويتركَ ما يحبُّه من الإنفاقِ لوجهِه؛ فيستوجبَ منه الحرمانَ, وأمّا اللهُ -سبحانَه- فإنَّه يَعِدُ عبدَه مغفرةً منه لذنوبِه، وفضلًا بأنْ يَخْلِفَ عليه أكثرَ مما أنفقَ وأضعافَه؛ إمّا في الدنيا، أو في الدنيا والآخرةِ، فهذا وعْدُ اللهِ، وذاك وعْدُ الشيطانِ؛ فلينظرِ البخيلُ والمنفقُ أيَّ الوعْدين هو أوثقُ؟ وإلى أيِّهما يطمئنُ قلبُه وتسكنُ نفسُه؟ واللهُ يوفقُ مَن يشاءُ، ويخذلُ مَن يشاءُ، وهو الواسعُ العليمُ".