لطالما كان التاريخ سيفًا ذا حدين، فمن جهة هو سجلٌ زاخرٌ بالدروس والعبر، ومن جهة أخرى قد يكون عبئًا يُثقل كاهل الأجيال اللاحقة، ويشكل عائقًا أمام تطلعاتها نحو المستقبل. في مجتمعاتنا، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان أسرى لأخطاء الماضي، نحمل أوزار قرارات لم نكن طرفًا فيها، ونُحاسَب على إخفاقات لم تكن لنا يدٌ في صنعها. فهل من العدل أن نُدان بسبب سياسات خاطئة أو قرارات ارتجالية ارتكبها من سبقونا؟
السياسة والعبء التاريخي في المشهد السياسي.. يتجلى هذا السؤال في صور شتى؛ فهناك دول وأنظمة تُحاكم أجيالها الجديدة على أساس إرثٍ ثقيل، يتراوح بين فشل إداري، وحروب عبثية، وتحالفات غير محسوبة. في الجنوب، على سبيل المثال، لا تزال التراكمات السياسية تُلقي بظلالها على الحاضر، وتؤثر في مسارات الفعل السياسي، وكأن الماضي لا يريد أن يسمح للأجيال الصاعدة بكتابة فصلٍ جديدٍ بعيدًا عن صراعات من سبقوهم.
إن تحميل الجيل الجديد مسؤولية فشل القيادات السابقة هو ظلم مزدوج؛ فمن جهة، يمنع هذا الاتهام الأجيال الناشئة من تقديم رؤى مختلفة أكثر نضجًا، ومن جهة أخرى، يكرس نهجًا عقيمًا لا يسمح بمراجعة السياسات وتصحيح المسار.
ليس المجال السياسي وحده هو المتأثر بإرث الماضي، بل يمتد ذلك إلى الجوانب الاجتماعية أيضًا. في بعض البيئات، قد يُحاسب الأفراد بناءً على أفعال آبائهم أو قبائلهم أو حتى انتماءاتهم، فيتم عزلهم اجتماعيًا أو النظر إليهم بعدوانية بسبب أحداث لم يكونوا طرفًا فيها. هذا النهج لا يخدم أي مجتمع يسعى إلى التطور، بل يعزز الانقسام والتعصب ويعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلّها.
لعل الحل يكمن في أن نتحرر من أسر الماضي دون أن نهمله؛ فالتاريخ يجب أن يكون أداةً للفهم والتعلم، لا وسيلةً للعقاب. المسؤولية تقتضي أن نُقيم الحاضر على أسس عادلة، لا أن نرهن مستقبل الأجيال الجديدة لصراعات وخلافات الماضي. علينا أن نفتح المجال أمام النقاش الموضوعي، ونشجع التفكير النقدي، ونمنح الفرصة لأفكار جديدة تنبثق من حاجات اليوم وليس من أخطاء الأمس.
إن استعادة الدولة الجنوبية مثلًا، أو أي مشروع وطني، لا ينبغي أن يكون محصورًا في اجترار إخفاقات الماضي، بل يجب أن يكون قائمًا على استشراف المستقبل بعيون أكثر وعيًا وواقعية. لا أحد ينكر أهمية مراجعة التجارب السابقة، لكن لا يجوز أن تكون هذه المراجعة عائقًا يحول دون البناء والتقدم.